كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
يزداد الوضع سوداوية. يكاد احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية يقترب من قيعانه الخطرة فيما خطر الوباء يقضم آخر “القروش البيضاء”. المهلة باتت تعدّ بالأسابيع لا الأشهر، حتى لو ابتكر “حاكم الهندسات المالية”ّ آليات جديدة تساهم في شراء بعض الوقت، فالمهلة المشتراة ستكون محدودة جداً. البركان الاجتماعي يقترب من لحظات انفجاره، وحين يفعلها سيكون من الصعب بل من المستحيل لجم حممه أو تطويقها.
المشهد القاتم يُرسم بأنامل تخاذل القوى السياسية وجشعها. استعادت التركيبة الحاكمة ثقتها المفقودة بضربات الانتفاضة، بعد تراجع الحراك الشعبي الذي فقد عفويته منذ أشهر بفعل دخول أجندات سياسية عبثت بصدقيته وبغضبه المُراكم على مدى أشهر وسنوات. وها هي القوى السياسية تعود تدريجياً إلى قواعدها الكلاسيكية لانتاج السلطة، وكأنّها لم تسمع الناس وقد بحّت حناجرهم وهم يطالبون الطبقة السياسية برمتها، بالرحيل.
مع اطفاء الانتفاضة الشعبية شمعتها الأولى، تبدو السلطة وكأنّها تعيش على كوكب آخر. تتقاتل في ما بينها وبكل وقاحة على مقعد من هنا وحقيبة من هناك. جلّ ما يهمها هو ما تحصّله من فتات المكاسب وتغفل واقع الدولة المأزوم والمفلس. يتناسون أنّ “البقرة وقعت”، وسلّاخوها من الخارج لا يتركون لسلاخي الداخل مكاناً لـ”يبلوا أيديهم” بها. لا بل يسود الاعتقاد أنّ التفرّج على الدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة، هو خيار تتخذه بعض القوى السياسية عن وعي كامل.
في الواقع، لا تشي المعطيات المتوافّرة بأنّ هناك رغبة إو إرادة جدية للبحث عن علاجات، ولو موقتة تقي “الانفجار الكبير”. وكأنّ الكل يتفرج على فرص الترقيع التي من شأنها أن تؤجل الانفجار أو تخفف من وطأة ارتطامه، تضيع من دون أن يرفّ لهم جفن. وكأنّ الجميع متواطئ في تفاهم غير مباشر على “التطنيش” بانتظار شيء ما قد يخلط الأوراق ويغيّر موازين القوى التي انتكست بفعل الغليان الشعبي في السابع من تشرين الأول 2019.
لا تبدي باريس أي قدرة على دفع الطبقة السياسية إلى التنازل عن بعض مكتسباتها لتأمين “اوكسيجين البقاء”. ولا تبدو واشنطن على استعداد لغضّ الطرف عن المسعى الفرنسي لتهدئة البركان اللبناني، لا بل تعمل على صبّ الزيت على ناره. والأسوأ من ذلك، هو أنّ الطبقة السياسية تساعدها على تأمين “الوقود”.
يقول المتابعون إنّ السيناريوات المأسوية هي التي باتت أقرب إلى الواقع. صار من الصعب جداً صياغة تفاهم مرحلي يمكن عبور معمودية النار على متنه بانتظار تبلور الصورة في المنطقة، الأمر الذي قد يحتاج إلى أشهر بعد، ويستحيل على الوضع اللبناني ملاقاته بأعصاب باردة.
أكثر من ذلك، الأرجح أنّ القوى الفاعلة لم تعد مقتنعة أنّ الاتفاقات الموضعية لا تزال مجدية، ومن الأفضل البحث عن صياغات دائمة تحاك على وقع تفاهمات المنطقة وفق منطق توزيع النفوذ على الرقعة الجغرافية والسياسية. وهذا ما يعني أنّ محاولات شراء الوقت من خلال تأليف حكومة تتولى وضع الخطة الاصلاحية موضع التنفيذ، باتت أكلافها باهظة جداً على القوى السياسية.
ولهذا، يسود الاعتقاد لدى بعض المعنيين أنّه كلما اقترب الوضع من لحظاته الحرجة، ارتفعت خشية بعض الدول الغربية، وفي طليعتها فرنسا، من الانهيار الكامل، ما قد يدفعها إلى التورط مجدداً في الوحول اللبنانية لمنع وقوعه في قعر القاع، ما قد يحسّن موقع القوى السياسية، التفاوضي لكونها الأطر السياسية الوحيدة القادرة على المساعدة على لجم الوضع.
وعليه، قد تكون الفوضى الاجتماعية المرتقبة اذا ما سقطت كل المشاريع الترقيعية، باباً لإعادة النظر بالصيغة السياسية بشكل عام. أكثر من ذلك، أبدت الادارة الفرنسية عدم ممانعتها في استضافة مؤتمر وطني لبناني يبحث في التعديلات المطروحة لتطوير الدستور اللبناني، ما يثبت بأنّها باتت مقتنعة بأنّ الصيغة القائمة فقدت قيمتها وقوة استمراريتها ولا بدّ بالتالي من البحث علنية في أطر بديلة. ولذا قد يكون الانهيار المالي في ظلّ حكومة تصريف أعمال غير مسؤولة بالمباشر عن أي من التداعيات، والذي سيجرّ حكماً إلى فوضى أمنية، المنفذ العريض لوضع كل الأوراق دفعة واحدة على الطاولة.