كتب توفيق هندي في “اللواء”:
تعيش المنطقة حالة مخاض وإضطراب في ظل علامات إستفهام كبيرة حول مسار السياسة الأميركية ذات التأثير الوازن جداً في حركة التناقضات في المنطقة والعالم.
في ظل هذه الأوضاع الإقليمية والدولية الخطيرة، بات لبنان الشعب والكيان والدولة في حالة صراع من أجل البقاء في وقت يبدو فيه أن المجتمع الدولي يطمر رأسه في الرمل إزاء المخاطر النابعة من تدهور الأوضاع في لبنان على الأمن والإستقرار والسلام في المنطقة. وهو يتصرف بخفة مريبة ولا يعطي للأوضاع في لبنان لا الأولوية ولا حتى الأهمية التي تستحق، وهو يذهب إلى معالجات تكتكية غير قابلة للتحقيق مثل المبادرة الفرنسية او معالجات موضعية وجزئية على شاكلة العقوبات الأميركية التي قد تؤدي إلى نتيجة معاكسة للمراد منها في حال قصور الإستراتيجية الأميركية في مواجهة إيران. أما القرارات الدولية، فهي تنتظر التنفيذ مثل القرار 1559 بما يخص سلاح المليشيات (وعمره 16 سنة) أو القرار 1701 (وعمره 15 سنة) الذي لم يطبق حتى الساعة بالنسبة لبنوده الأساسية.
من زاوية أخرى، من الملاحظ أن ثمة فارقاً كبيراً بين وضع لبنان وأوضاع الدول المأزومة في المنطقة من سوريا إلى العراق مروراً باليمن وليبيا وصولاً إلى الجزائر وتونس. ففي هذه الدول، ثمة صراعات أهلية و/أو إضطرابات داخلية مترافقة مع تدخلات إقليمية ودولية حيث أن إضطراب أوضاعها لا يؤثر إلا جزئياً على الأوضاع في الإقليم.
وعلى عكس هذه الصورة، فلبنان يتدخل عسكرياً وأمنياً وأيديولوجياً وسياسياً في دول المنطقة كافة، ولو بأشكال مختلفة، مباشرة أحياناً وغير مباشرة أحياناً أخرى. ما السبب؟ بباسطة لأن حزب الله سيطر على لبنان وحوله إلى قاعدة إنطلاق لمشروعه الجهادي الإسلامي على طريقة ولاية الفقيه، ولأنه جزء لا يتجزء من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولأنه الطرف الرئيسي في فيلق القدس المسؤول عن تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية ليس فقط إلى شعوب ودول المنطقة، إنما إلى شعوب ودول العالم، ولأن السيد نصر الله أصبح عملياً القائد غير المعلن لهذا الفيلق بعد مقتل قاسم سليماني، ولأن حزب الله، نيابةً عن المرشد في إيران، هو القائد العملاني لمحور المقاومة الذي يواجه الثنائي أميركا-إسرائيل وحلفاءه في المنطقة والذي يحاصر إسرائيل من جبهات ثلاث (لبنان، سوريا، غزة) ويتوعد بإزالتها والتي تعتبره إسرائيل عدوها رقم واحد.
وقد تمكن حزب الله من خلال حيازة السلاح وفساد الطبقة السياسية المارقة بمكوناتها كافة من السيطرة على الدولة اللبنانية بمفاصلها كافة بعد إنتخاب الرئيس عون وإنتخاب البرلمان وفقاً لقانون وفر له الأغلبية فيه. وهكذا، حقق حزب الله معادلته الذهبية مع الطبقة السياسية المارقة: لبنان منصة إطلاق لمشروعي الإسلامي العالمي مقابل الإبقاء على سيطرتكم على قواعدكم الشعبية والحفاظ على علاقاتكم الخارجية بعدم إحراجكم، كما مشاركتكم الدونية في السلطة وإدارة محاصصاتكم وتشريع فسادكم ونهبكم للمال العام. وهكذا تحللت الدولة وغيب الكيان على حساب الشعب لكي يتحكم حزب الله بلبنان بمساعدة الطبقة السياسية المارقة.
بالمقابل، ثمة ثورة شعبية حقيقية لا يمكنها قلب الطاولة حتى لو نزل مليونا شخص على ساحة الشهداء، حتى لو وحدت صفوفها وبرامجها وأصبح لها قيادة، لأنها سوف تواجه عند الحاجة بالقوة والبطش أمام مجتمع دولي سوف يصفق للثورة الشجاعة ويتفرج عليها تقمع، فضلاً عن أن عدداً ممن يدعي قيادة الثورة هدفهم الوصول إلى «السلطة» ليس إلا، وهم يرفعون شعارات طنانة رنانة مستحيلة التحقيق في ظل سلاح حزب الله وتحكمه مع الطبقة السياسية المارقة بمفاتيح التسلط، أعني حكومة مستقلين وإنتخابات مبكرة.
فهل وضع لبنان ميؤوس منه وهل هو حتماً ذاهب إلى الزوال؟
كلا إذا صوبت الثورة خطابها على المطالبة بتنفيذ القرارات الدولية وأهمها القرار 1559 و1701، وإذا صوبت تحركاتها نحو أرباب الطبقة السياسية المارقة إلى جانب إفتضاح مكامن الفساد في مفاصل الدولة كافة.
وبالرغم من كل ما تقدم حول الموقف الدولي القاصر في مواجهته الوضع الخطير النشئ في لبنان، لا أزال مقتنعاً بأن مصلحة أميركا وروسيا وحتى الصين والدول الغربية والدول العربية الوازنة يمكنها أن تتلاقى على معالجة جدية للوضع في لبنان لأن «صوملة» لبنان سوف تؤدي إلى إمساك حزب الله المحكم بمنصته اللبنانية وبالتالي إلى إزدياد فعاليته بتهديد الأمن والإستقرار والسلام في المنطقة مهدداً بذلك مصالح الدول في المنطقة وفي العالم.
لذا يكون مفتاح الحل بالعمل الديبلوماسي الجاد لإقناع أصحاب القرار الدولي بأن مصلحتهم هم، هي بخلاص لبنان وليس بإندثاره وأن تقدم لهم خارطة طريق قابلة التحقيق مرتكزة على تدويل الوضع اللبناني بمعنى إتخاذ مجلس الأمن قراراً يضع القرارين 1559 و 1701 تحت الفصل السابع وتوسيع مهام القوات الدولية (Finul) وإتخاذ قرار بوضع لبنان تحت الإنتداب الدولي وفقاً للفصل الثاني عشر والثالث عشر من شرعة الأمم المتحدة، وذلك لأن لبنان بلد مخطوف ليس بقدرته أن يحرر نفسه ولأن اللبنانيين باتوا غير قادرين على حكم أنفسهم ولأن الدولة اللبنانية باتت في خبر كان وبالتالي فقدت عضويتها حكماً في الأمم المتحدة ولأن لبنان أسير قضية إنسانية غير قابلة للمعالجة لبنانياً، والأهم أن لبنان بات قنبلة موقوتة للأمن والإستقرار والسلام في المنطقة.
في إطار الوصاية الدولية الآنفة الذكر، يجب تشكيل سلطة مؤقتة عسكرية-مدنية على شاكلة ما حدث في السودان تعلق الدستور وتعمل تحت الرقابة الدولية على تنظيف مؤسسات الدولة كافة من آثار المحاصصات والفساد بهدف العودة في مرحلة لاحقة إلى تنفيذ الدستور. فتجرى إنتخابات نيابية وفق قانون جديد ثم إنتخابات رئاسية وتشكيل حكومة، مما يمهد لرفع الوصاية الدولية وتعافي لبنان على كل الصعد.
ملاحظة أخيرة: إن الفساد في لبنان بنيوي نابع من تركيبة لبنان السياسية- الإجتماعية الذي حددها أوهانس باشا قيومجيان آخر متصرف في لبنان، بأنها مزيج هجين من الإقطاع الآري والقبلية السامية. هذه هي التركيبة التي أنتجت العائلات السياسية القديمة والمستحدثة التي تتشكل منها الطبقة السياسية المارقة. الرئيس فؤاد شهاب حاول أن يقتلعها وسماها بـ«أكلة الجبنة» (fromagistes). غير أنه فشل في مسعاه الحميد.
كل الأمل في أن شبيبة الثورة تمنع إعادة إنتاج طبقة سياسية مارقة بعد قيام السلطة المؤقتة بإقتلاع آثارها في مؤسسات الدولة كافة.