عندما سيكرّس التاريخ صفحة للعام 2020 في سوريا المشلعة بالحروب وتصفية الحسابات الدولية بين كبار العالم، لا شك في أنه سيفرد مساحة واسعة لوليد المعلم، الاسم الذي “علّم” وسيعلّم طويلا إلى جانب سائر أركان النظام السوري بزعامة بشار الأسد.
مرور اسم في كتب الأزمنة وتاريخ الشعوب لا يعني بالضرورة أن مآثره كثيرة ويجدر التوقف عندها باعتبارها مرادفا لخير العالم. لكن الأكيد أن فيها ما يفترض الإضاءة عليه في زمن الثورات والانقلابات وإعادة رسم الخرائط. صحيح أن كثيرا من أبناء الجيل الجديد من المهتمين بالشأن السياسي في العالم العربي يذكرون المعلم الذي توفي صباح اليوم عن عمر يناهز 79 عاما وزير خارجية سوريا، والناطق الأول باسم نظامها في المحافل الدولية، مع العلم أنه تسلم هذه المسؤولية الشديدة الحساسية في ظروف قد تكون الأصعب على سوريا في تاريخها الحديث، منذ وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد في 10 حزيران 2000.
لكن الصحيح أيضا أن الراحل صاحب تجربة ديبلوماسية واسعة قادته إلى كبريات عواصم القرار في العالم، أبرزها واشنطن، التي استضافته سفيرا بين الأعوام 1990 و2000، أي في عز الكباش الدولي بين دمشق والمجتمع الدولي حول ملفات كثيرة وكبيرة، على رأسها الوصاية السورية على لبنان.
على أي حال، فإن أهم ما في مسيرة المعلم أنه رأس الديبلوماسية السورية في أصعب مراحل الصراع السوري مع لبنان من جهة، ومع القوى الدولية، من جهة أخرى. ويروي العارفون بكواليس هذه المرحلة أن وليد المعلم ملأ الفراغ الذي تركه فاروق الشرع ليشغل منصب نائب الرئيس السوري، مكان عبد الحليم خدام، الذي كان إلى جانب رستم عزالي وغازي كنعان ركائز الاحتلال السوري في لبنان.
بعد انتحار كنعان في ظروف غامضة عام 2005، أحس عبد الحليم خدام، الوفي الأول لآل الأسد، إلى حد تعديل الدستور لتعبيد طريق قصر الشعب أمام طبيب العيون بشار الأسد الآتي من لندن لخلافة والده الذي حول بلاده مركزا أساسيا لسياسات وخيارات العالم العربي، وأتقن اللعب على أعصاب الأميركيين، إلى جانب الحلفاء الروس، أن دوره المحوري والمقرر في الدائرة اللصيقة المحيطة بالأسد الابن بدأ يسجل تراجعا. فما كان منه إلا أن اختار المنفى الباريسي الطوعي، تاركا المنصب لفاروق الشرع، الديبلوماسي المحنك، على أن يتولى وليد المعلم وزارة الخارجية.
وكما أبرز أركان النظام السوري، الذين لا يشك أحد في أنهم يخشون خيانة الديكتاتوريات وعواقبها الوخيمة، كان وليد المعلم رجل الأسد الأول في الساحة الدولية، خصوصا في أوساط حلفاء دمشق كطهران وموسكو. مع مرور الزمن، تحول المعلم إلى المخضرم الذي واكب عن قرب انفتاح الغرب، بمبادرة يتيمة من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على دمشق الغارقة في الصراع السياسي اللبناني، الذي اتخذ منحى مختلفا عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاتهامات التي كيلت لدمشق بالاجهاز على معارضها اللبناني الأبرز، بعيد الاجتماع العاصف الشهير بين الأسد والحريري. وكان الأخير قد تلقى تهديدا صريحا بـ”كسر البلد على راسو”، إن لم يوافق على التمديد للرئيس إميل لحود.
فشلت التسوية الدولية مع سوريا، على رغم الدخول العربي والسعودي تحديدا على الخط، فدقت ساعة الرحيل في غمرة ربيع الشعوب العربية، بعدما تحرر التونسيون والمصريون والليبيون من طغاتهم. غير أن الأمور لم تكن بهذه السهولة في الملف السوري، حيث دخل الجميع إلى الميدان، بينهم ايران وحزب الله وروسيا والعراق واسرائيل، بحجة محاربة الارهاب، مع العلم أن وزير الخارجية السوري كان أول من وسم معارضي النظام بالارهابيين. في المقابل، كان المعلم، الديبلوماسي الذكي، يعرف كيف يستخدم مهاراته لتجميل صورة النظام وتفادي إغراقه في وحول السجالات مع الدول الصديقة. بدليل أنه اعترف، في أحد آخر مؤتمراته الصحافية، بأن لا تواصل مع لبنان في ملف تطبيق قانون قيصر الأميركي. “لكن عندما يريد لبنان، سيجد سوريا جاهزة”، واضعا الكرة في الملعب اللبناني في ظل الكباش الداخلي على التطبيع مع سوريا تحت ستار عودة اللاجئين. وبالحنكة السياسية نفسها، نجح المعلم في حفظ مكان في الذاكرة السياسية لإجابته عن سؤال يتعلق بوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في أحد المؤتمرات الصحافية أيضا: “من هو بومبيو؟ أنا لا أعرفه”، قال المعلم في دليل إلى أن دمشق لا تقيم وزنا للمجتمع الدولي.
كلها محطات كبيرة وبارزة في مسيرة المعلم الذي خسر النظام برحيله وجهه الديبلوماسي الأبرز. لكن الأهم أن العالم خسر فرصة اكتشاف كثير من أسرار نظام الأسد الابن وكواليسه، حملها معه المعلم من المهد السياسي إلى اللحد الأبدي.