كتب زكريا الغول في صحيفة “اللواء”:
شكّل النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية نمو مدينة بيروت، مستفيدة من تيارات التحديث في الدول العثمانية ودخول رأس المال الأجنبي في مدن الشرق، وأصبحت الممر الرئيسي للتجارة الدولية شرق المتوسط، كما اتخذتها شركات النقل البحري والتأمين مركزاً رئيسياً لها.
ساهم إعلان المدينة لمركزاً لولاية بيروت في إجتذاب الإستثمارات الأوروبية – خاصة الفرنسية – وتم إنشاء الشركة العثمانية لطريق بيروت – دمشق التي تولت شق طريق للعربات بين المدينتين في العام 1863، كما تم إنشاء الإتصال التلغرافي مع اوروبا في العام 1858، وفي العام 1890 تمت الخطوة التي أولت بيروت المركز المتقدم بين باقي مدن المتوسط، وتمثّلت باستحصال الشركة الإمبراطورية للمرافئ والأرصفة والمخازن في بيروت على إمتياز بناء مرفأ جديد في بيروت، الذي باشر عمله في العام 1895.
تنامت المصالح الأوروبية في بيروت، واحتكر الفرنسيون تجارة الحرير أما البريطانيون فدانت لهم السيطرة على قطاعات التأمين والنقل البحري والنظام المصرفي، ونتيجة للتطور الكبير الذي شهدته، إزداد عدد سكان بيروت، وإفتتح خط الترامواي في العام 1909 وجرى توسعة الطرق وإفتاح الفنادق الفخمة والمخازن الفاخرة، بالتزامن مع فورة على الصعيد الثقافي تمثل بإفتتاح مدارس الإرساليات الأجنبية والجامعات كما المدارس العثمانية.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، عمل الإنتداب الفرنسي على تحويل بيروت الى عاصمة لدولة لبنان الكبير، فأصدر الجنرال غورو القرار رقم 336، ما يؤكد اهميتها في تركيبة الدولة الحديثة النشوء، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ المدينة، حيث قامت سلطات الإنتداب بوضع مخطط للمدينة في العام 1932 عبر الأخوين دانجيه، كما تم وضع تصميم تفصيلي لساحة البرج عبر المهندس دولاهال في العام 1934، وشهدت فترة الإنتداب الفرنسي طفرة كبرى على كافة الأصعدة، كما شكلت بيروت نقطة الإرتكاز للمصالح الفرنسية في الشرق.
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ونيل لبنان إستقلاله، شهدت المنطقة العربية النكبة الكبرى في العام 1948، أعقبها نزوح فلسطيني كبير بإتجاه لبنان، وإستقبلت بيروت الرساميل الفلسطينية التي إتخذت من المدينة مركزاً لإستثماراتها، وقامت بالمشاريع الكبرى التي ساهمت في نهضة المدينة وتطورها من إنشاء مصارف الى تأسيس شركات، وإستفادت بيروت ايضاً عبر مرفئها من التجارة لأراضي دول الخليج العربي والعراق، كما ساهمت الطفرة المالية الناتجة عن إرتفاع عائدات النفط في تعزيز إقتصاد بيروت وتحديداً نظامها المصرفي، حيث شكلت تلك المصارف مركز الجذب لأموال عائدات النفط.
عقب نكبة العام 1948، برز الى العلن حالة من عدم الإستقرار في الأنظمة العربية، لتشهد ساحات كبرى المدن العربية إنقلابات عسكرية متتالية، أخافت الرساميل العربية التي وجدت في بيروت مركزاً آمناً تنقل إليها أموالها ونشاطها التجاري، فأحدثت نمواً اقتصادياً ومصرفياً وتجارياً، وكان مرفأ بيروت نقطة الثقل في تطوير إقتصاد المدينة، وأصبحت المدينة تلعب دور مصرف العرب ومستشفاهم وجامعتهم ومدينتهم المفضلة والمحببة.
إستمرت بيروت في تطورها في ستينيات القرن الماضي رغم الخضة المصرفية المتمثلة بإفلاس بنك إنترا، ورغم عديد الإعتداءات الإسرائيلية، لتشهد فترة السبعينيات توجيه الضربة القاضية للمدينة، بعد إندلاع الحرب الأهلية، فتم تدمير وسط مدينة الذي يمثل القلب النابض للإقتصاد اللبناني، وإستكمل العدو الإسرائيلي تدمير المدينة بعد إجتياحها في العام 1982.
حملت سنوات الحرب الأهلية الطويلة معها إضافة للدمار التي خلفته، إنهاء لدور بيروت الرائد في المنطقة بالتزامن مع نشوء مدن عربية أخذت تنافس بيروت على دورها الرائد، وإستمرت المدينة في إنحدارها لحين توقيع إتفاق الطائف وإنهاء الحرب، وشكل العام 1992 بداية عودة بيروت لممارسة دورها المتميز عبر وصول الرئيس رفيق الحريري لتسلم رئاسة الحكومة، وأنشأ المشاريع الكبرى وأعاد إعمار وسط بيروت، وعادت بيروت معه لتلعب أدوارها المتميزة، رغم عدد من الإعتداءات الأمنية الإسرائيلية.
لم تطل فترة الإزدهار التي عاشتها بيروت أكثر من خمسة عشر سنة، مع حصول الزلزال الكبير الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري، أعقبه فترة ركود إقتصادي وإنمائي رغم عدد من المحاولات الفاشلة، وكان للخلافات السياسية دور بارز في ضرب الإقتصاد اللبناني وبيروت ركيزته الأساسية.
في العام 2019 حصل إنهيار إقتصادي غير مسبوق، متزامن مع عزلة دولية وعربية غير مسبوقة، خلت بموجبها شوارع بيروت ومتاجرها وفنادقها وجامعاتها من روادها، وحمل العام 2020 الضربة القاضية لما تبقى من دور إقتصادي لبيروت التي خسرت رئتها، فأصبحت المدينة دون مرفأها للمرة الأولى منذ ما يقارب المائة عام.
بيروت، هي مدينة مظلمة حالياً، مستمرة في العيش عبر المساعدات الإنعاشية، وقد خسرت قلبها النابض ورئتها الإقتصادية وروادها وطلابها، إنها مدينة حزينة على شرق المتوسط، وهي تشاهد مدن عربية وغير عربية تأخذ أدوارها التاريخية.
وأخيراً، بعد الإستئذان من الشاعر الكبير نزار قباني يطرح السؤال: آه يا عشاق بيروت القدامى، هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟