تقرير أيمن شروف – العربية:
عام 2008، قام حزب الله باحتلال بيروت ومحاولة احتلال أجزاء من جبل لبنان، تحت ذريعة حماية شبكة “اتصالات المقاومة” التي اعتبروها آنذاك مسألة حياة أو موت. أحداث 7 أيار الشهيرة، رسمت بعض الخطوط الحمر أمام الدولة وأعطت إشارات واضحة عما بدأ بالفعل حزب الله في تطبيقه في مناطقه من خلال شبكة اتصالات مستقلة: تأمين كُل الخدمات بمعزل عن الدولة.
الدويلة التي بدأت حتى ما قبل الانسحاب الإسرائيلي بالظهور شيئاً فشيئاً، تحاول اليوم أن تستفيد من مواردها لمواجهة الأزمة التي تعصف بلبنان والتي تعصف بها بطبيعة الحال، أولاً لأن هذه الدويلة تتأثر بطبيعة الحال بما يجري في الدولة، ولبنان يعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ثانياً، هي تتأثر مباشرة بالعقوبات المفروضة على النظام الإيراني ومن يتعاون معه، وعلى رأسهم حزب الله، اليد الطولى للإيرانيين في المنطقة، وما إشكال المولدات الذي حصل قبل أيام في الضاحية إلا امتداداً لتمدد نفوذ الحزب إلى كُل شيء.
لم يبق شيء في الضاحية الجنوبية لبيروت إلا وصار في يد حزب الله. من يجول في الضاحية اليوم يُلاحظ على سبيل المثال، كيف صارت خزانات مياه العباس موزعة في الأحياء ومفتوحة أمام الناس كي يؤمنوا حاجتهم من مياه الشفى. الخزانات تُعبأ من مياه الباروك وتتكفل شاحنات “جهاد البناء” بنقلها وتوزيعها على الخزانات في الأحياء.
وجهاد البناء هي الذراع اللوجستية للحزب في كُل ما يتعلق بالإعمار والصيانة والبيئة والزراعة، وهي كانت الجهة التي توّلت إعمار ضاحية بيروت الجنوب عبر مؤسسة وعد بعد حرب تموز عام 2006.
واللافت اليوم في ما خص موضوع المياه أيضاً، أن الحزب بصدد حفر آبار ارتوازية واستعمالها لاحقاً بشكل موازٍ لشبكة مياه لبنان وهي الشبكة الرسمية التي تديرها الدولة. أكثر من ذلك، بدأ الحزب بحسب مطلعين، بحفر آبار ارتوازية في الغبيري وحارة حريك بهدف (استعمالها عند الحاجة)، وتقول المعلومات إن الخطة تقضي بمرحلة ما، باستعمال شبكة مياه لبنان لتوزيع المياه على سكان الضاحية وتحصيل اشتراكات شهرية لقاء تأمين المياه للمنازل على أن يكون الاشتراك مقبول نسبياً ويراعي الوضع الاقتصادي العام.
فيما خص الإنترنت، شبكة الفايبر أوبتيك (الحزبية) تُغطي الضاحية كلها ومن الصعب اختراقها. هناك موزعون صغار لبعض الأحياء، وهؤلاء أيضاً يأخذون من شبكة الحزب الأم. يقول مطلعون على ما يجري إن شبكة الانترنت بيد حزب الله حتى اشتراك أوجيرو الذي يتم توزيعه عبر اشتراكات شهرية من خلال موزعين، وهي الجهة المشغلة للإنترنت في لبنان لصالح الدولة اللبنانية.
يدرس حزب الله بعناية كُل ما يدور من حوله وكُل ما يحصل في مناطق نفوذه وخارجها، وضعيته اليوم تخوّله التحكم بكُل شاردة وواردة.
الترغيب والترهيب
يوماً بعد يوم، دخل حزب الله إلى هذا المجال عبر مجموعة من المتمولين الذين يعملون لحسابه وبدأوا يتمددون شيئاً فشيئاً، بالترغيب والترهيب، المهم النتيجة. نجح بذلك إلى حد بعيد، إلى أن حصلت بعض المشاكل عام 2018 حول الحقوق الحصرية لقناة “بي إن سبورت” مع بروز شخصية مقربة من الحزب ومن عشيرة كبيرة يريد الحصول على الحقوق بدعم من الحزب، ولصالح الحزب في نهاية المطاف.
كبُر الإشكال مع الموزعين الآخرين، إلى أن قام حزب الله، عبر مقربين منه، بالتعاون مع أحزاب السلطة الآخرين بإنشاء شركة اسمها “سما” تكون هي المسؤولة عن توزيع الخدمة والحقوق الحصرية وكُل ما يتعلق باشتراكات الأقمار الصناعية. الشركة مملوكة من مساهمين ينتمون إلى حزب الله وحركة أمل وتيار المستقبل والتقدمي والتيار الوطني الحر والقوات وبعض الأحزاب الأخرى التي لديها سيطرة على الأرض.
والجدير بالذكر أن المساهم في شركة “سما” عن حزب الله هو شقيق أحد كبار القيادات في الحزب سابقاً وهو شريك ومساهم أساسي فيها، دفع ملايين الدولارات للحصول على حصته، كما فعل مساهمون من أحزاب أخرى.
وكيف استطاع الحزب من السيطرة على كُل مناطقه؟ يروي أحد الذين تابعوا ما كان يحصل، يقول: “كانوا يُجهزون الملفات بحق موزعي الكابلات، من ثُم يدعون عليهم أمام القضاء، لإجبارهم على الانصياع لكارتيل شركة سما. واللافت أن حكم القاضي الموجود في منطقة في جنوب لبنان كان دائماً لصالح الشركة المملوكة من الحزب وباقي الأحزاب اللبنانية”، ويشير إلى أن “شركة وحيدة بقيت خارجة عن السيطرة ولكن يتم التعامل معها عبر أرباح متبادلة وهي موجودة في مخيم برج البراجنة”.
حروب بين الموزعين
وقبل هذه السيطرة كانت تنشب حروبا بين الموزعين الصغار إلى أن أتى الموزع الكبير (الحزب عبر سما) وجعل الجميع تحت جناحه. وإلى جانب الجباية والاستفادة المادية.
تخضع شركة “سما” لرغبة الأحزاب فيما تريد أن تعرضه للمشاهد. على سبيل المثال والكلام لسكان من الضاحية، “فاشين تي في (Fashion TV) موجودة في الحدت (على تماس مع مناطق نفوذ الحزب) مثلا وممنوعة في الضاحية. هناك أيضاً محطة هوائية توزع لكل لبنان اسمها “هوم سات” وهي تضع محطات ملتزمة وكُل من هم في الحزب يشتركون فيها، تعرض برامج تضع رياضة واخبار وبرامج ملتزمة للأطفال ويصنفونها محطة توزيع ملتزمة ويديرها أحد الاختصاصيين في الحزب ومركزها حارة حريك”.
قبل بضعة أيام، حصلت اشتباكات مسلّحة في الضاحية بين آل المقداد واشتراك الهادي وهي الشركة المشغلة لمولدات الحزب المنتشرة في كُل مكان. في السابق كانت المناطق مقسمة بين النافذين وكانوا فيما مضى ينتمون إلى مشارب مختلفة إلى أن أطبق الحزب على الضاحية ما عدا منطقة الشياح حيث تعتبر المركز الرئيسي لحركة أمل ويسيطر على المولدات هناك كُل من جهاد الحسيني (الاسم الحركي لشقيق حسن نصرالله) ونمر الخليل يسيطران على منطقة الشياح واشتراكاتها الكهربائية.
إلى ذلك، كل ما تبقى من الضاحية والمدن التي تخضع لسيطرة الحزب تم العمل في هذا القطاع بشكل غير مباشر. كيف؟ تقول مصادر مطلعة على ما يدور داخل الحزب: “مثلاً في المربع الأمني (أي في حارة حريك) هناك اشتراك مولدات أبو عرب (اسمه الحركي) وهو مسؤول في حزب الله وكانت المناطق مقسمة بينهم إلى أن تأسست شركة باسم اشتراك الهادي والمملوكة من ياسر الموسوي ابن عباس الموسوي وجواد نصرالله ابن حسن نصرالله أمين عام الحزب وحيدر (اسم حركي) إحد مسؤولي فرع الحماية بالحزب”.
يُشيع الحزب أن الإشكال حصل مع بين آل المقداد وشخص من آل أمهز، ولكن الأخير عبارة عن موظف لدى مالكي الهادي الثلاثة، والهادي إلى اليوم صار لديها ما يُقارب 20 ألف مشترك في الضاحية، وبقي أمامها بضعة بؤر لم تسيطر عليها، منها منطقة الرويس التي يسيطر عليها آل المقداد. مثلاً آل المقداد في الحارة يسيطرون على المولدات ولكن الهادي لن تدخل تلك المنطقة لأن صاحب المولدات يدفع لأحد النافذين بالحزب، بحسب ما تقول مصادر مطلعة.
في منطقة الرويس، يروي أحد سكانها أن آل المقداد اشتبكوا مع مكاتب اشتراك الهادي وأُصيب عنصر في حزب الله، يقولون إنه أصيب عدة مرات في سوريا ويقول الحزب إن لا علاقة له بالإشكال وهو ليس سوى عابر سبيل وأصيب بالخطأ ولكن الرواية غير دقيقة لأن ما يقوله بعض من كان حاضراً إن العنصر كان مشاركاً في إطلاق النار وأصيب خلاله.
ويضيف: “بعد الحادث استغل المسؤول الأمني للمنطقة علي أيوب وهو معروف بأنه سمسار، علاقته الطيبة مع رئيس بلدية لاسا السابق عصام المقداد وهناك مصالح مشتركة فيما بينهما حيث قام مسؤول اللجنة الأمنية بالحزب بإطلاق يد القوى الأمنية بشكل غير مسبوق لمداهمة منازل وأماكن تواجد أي مشتبه به في إطلاق النار، وفي اليوم الثاني، تم إلقاء قنبلة على اشتراك الهادي مرة ثانية تحت جسر بئر العبد”.
الجدير بالذكر أن جزءاً آخر من منطقة حارة حريك يسيطر عليها مولدات تابعة لنائب رئيس بلدية حارة حريك أحمد حاطوم (حزب الله) ولهذا الهادي لا يدخل إلى هذه المنطقة بل توجهوا نحو منطقة آل المقداد حصراً.
لم تنته الرواية هنا. لماذا الهادي ينتشر بهذه السرعة؟ بالإضافة إلى الأمر الواقع الذي يفرضه الحزب في هذا السياق، للهادي ميزة غاية في الأهمية عن باقي الموزعين، إذ أنهم استفادوا، بحسب مطلعين على الملف، من سعر المازوت المدعوم من الزهراني على سعر 12 ألف ليرة (8 دولار حسب التسعيرة الرسمية) لـ20 ليتراً، في حين اضطر مشغلون آخرون لشراء المازوت بحوالي 20 إلى 25 ألف (13-15 دولار) لـ20 ليتر من خلال السوق السوداء، وبالتالي ما تُقدمه الهادي من تسعيرة للاشتراكات لا يُمكن لغيرها أن ينافسها به.
من الماء إلى الكهرباء والانترنت وصولاً إلى المولدات وغيرها من خدمات، بنى الحزب دورة اقتصادية موازية للدولة. استفاد من غيابها، ولكن في الوقت نفس استفاد منها، وسخّرها ليتمدد ويُصبح هو السلطة الفعلية، التي يعود إليها الناس في كُل ما يعنيهم، فيما قدرته على الصمود في الأزمة الاقتصادية صارت أكبر، بعد أن أمّن موارد جديدة، كانت للدولة اللبنانية، وصارت له، لدويلته.