كتب جوني منيّر في صحيفة الجمهورية:
لا يستطيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب التفكير في شن حرب على ايران حتى ولو رغب بذلك. فقرار الحرب في حاجة الى تحضير الداخل الاميركي، الذي يطلب عكس ذلك، اي الانسحاب. وهو ايضاً في حاجة الى موافقة صريحة من الكونغرس وهي غير مؤمّنة، والى رضى المؤسسة العسكرية وهذا غير متوافر، خصوصاً وانّ الجيش الاميركي يعاني من انتشار فيروس كورونا في صفوف جنوده، والتي وصلت الى معدل 1300 اصابة جديدة يومياً خلال الاسبوع الماضي. وثبت حتى الآن نحو 73000 حالة كورونا في صفوف الجيش الاميركي، اضافة الى عشرات آلاف الإصابات على مستوى افراد وزارة الدفاع والمتعاقدين والموظفين المدنيين.
قد يكون اكثر ما يطمح اليه ترامب قبل رحيله، تنفيذ ضربة جوية محدودة تؤدي الى نتيجة مزدوجة: الاولى إحداث الضجة التي يريدها في الداخل الاميركي، والثانية وضع العراقيل امام طموح خلفه جو بايدن بالتفاوض مع ايران. لذلك ربما جرى إرسال الطائرة الاستراتيجية B52، بهدف التلويح بردع أي ردود فعل في حال حصل ما يتمنّى ترامب.
لكن مهمة استقدام هذه الطائرة، والذي ترافق مع ضجة اعلامية، قد يكون خصوصاً لتوجيه رسالة تحذير لإيران، في حال اقدمت على تنفيذ عملية انتقامية في ذكرى اغتيال قاسم سليماني، والتي تصادف آخر ايام ولاية ترامب. لكن الاهم، انّ شروط الحرب غير متوافرة. ففي الربيع الماضي كتب بايدن، أنّه سيعيد الغالبية العظمى من الجيش الموجود في الشرق الاوسط الى الوطن. وهذا ما يتماشى مع توجّه ادارة ترامب وحتى ادارة اوباما. لكن بايدن يختلف مع ترامب حول شروط الانسحاب والسرعة التي يجب ان يتمّ فيها، ذلك انّه انتقد الانسحاب السريع من سوريا، ما سمح لتركيا وروسيا بملء الفراغ بدلاً من الاكراد حلفاء الاميركيين. وهو يعتقد انّ الانسحاب السريع وغير المنظّم من افغانستان سيمنح حركة «طالبان» نفوذاً هائلاً. مع الاشارة الى انّ هنالك ما يقارب الـ70 الف جندي اميركي في الشرق الاوسط، معظمهم في قواعد عسكرية في البحرين والاردن والكويت وسلطنة عمان وقطر والسعودية والامارات وتركيا. لكن، وفيما يعمل ترامب على نصب الأفخاخ ووضع العراقيل امام بايدن، فإنّ المنطقة تستعد جدّياً لمرحلة المفاوضات الاميركية ـ الايرانية. فعلى سبيل المثال، فإنّ روسيا في اجواء معلومات تفيد أنّ وزير الخارجية الاميركية السابق وعرّاب الاتفاق النووي جون كيري، نجح خلال المرحلة الماضية من خلال تواصل غير معلن مع ايران، في نسج جملة تفاهمات حول عناوين تشكّل ارضية واعدة للمفاوضات، ولا بدّ من ان تظهر نتائجها خلال العام المقبل.
من هنا، لا بدّ من التمعّن جيداً في الكلام الذي اطلقه وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف، والذي شكّل الطرف الايراني لقناة التواصل السرّي مع كيري، حين قال غداة الإعلان عن فوز بايدن لصحيفة «ايران» الحكومية، أنّ «ثمة شيئاً يمكن القيام به تلقائياً ولا يحتاج الى اي شروط او تفاوض. فتنفذ واشنطن التزاماتها بموجب القرار 2231، ونحن ننفذ التزاماتنا بموجب الاتفاق النووي». واضاف: «أنّ هذا الامر لا يحتاج الى اي مفاوضات او شروط يمكن القيام بها». ظاهر الكلام ايجابي، لكنه ضمناً يحتوي على خطة لاستباق اي شروط جديدة، سيعمل فريق بايدن على ادراجها في المفاوضات، والتي لا يمكنها التغافل عن النقاط التي حققها ترامب، وستتضمن حتمية المفاوضات حول النفوذ السياسي ورسم خريطة المنطقة. من هنا تكثيف الغارات الاسرائيلية على مواقع ايرانية قرب دمشق بعد طول انقطاع، وفي اطار تثبيت معادلة إضعاف نفوذ ايران في سوريا الى الحدّ الادنى الممكن. ولا حاجة للإشارة الى انّ هذه الغارات تحصل بعلم موسكو المسبق.
ففي وزارة الخارجية الاسرائيلية يجري رسم استراتيجية تتعلق بسياسة اسرائيل الواجب اعتمادها مع عودة المفاوضات الاميركية ـ الايرانية. ونُقل عن وزير الخارجية الاسرائيلية غابي اشكينازي قوله: «لا نريد البقاء خارجاً مرة اخرى وتكرار أخطاء الماضي، والتي أدّت الى بقاء اسرائيل معزولة في حين كانت ادارة اوباما تنجز مفاوضات حول الاتفاق النووي».
وفي موازاة ذلك، باشرت الحكومة الاسرائيلية اتصالات مع فريق بايدن، بهدف بناء قنوات اتصال جدّية وثابتة مع الادارة الديموقراطية.
وعلى رغم من تمنّع ترامب التعاون مع بايدن لتنسيق المرحلة الانتقالية، إلّا انّ الفريق المعاون للرئيس المنتخب باشر إعداد خطة التعامل مع الانسحاب العسكري الاميركي من الشرق الاوسط، من خلال اعداد القوى البديلة، والتي تتكون من الجيوش الحليفة، وحصر مهمات القوة الاميركية المتبقية بالتركيز على المجالات التي تناسب دورها، ولاسيما منها الصواريخ البالستية وقوات العمليات الخاصة والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. وفي اختصار، ابقاء الجهوزية للتدخّل السريع، اضافة الى منح اليونان اهتماماً خاصاً، خصوصا وانّ الجالية اليونانية الكبيرة في الولايات المتحدة ساندت واقترعت لمصلحة بايدن.
لكن ثمة تحدّيات عدة اخرى في الشرق الاوسط، احداها الصعود التركي، خصوصاً بعدما سجّل اردوغان انتصاراً في ناغورنو كاراباخ. ويبدو انّ انقرة في صدد جس نبض واشنطن من خلال قبرص التركية، والتي زارها اردوغان أخيراً في مناسبة الذكرى 37 عاماً لإنفصالها. الواضح انّ اردوغان يريد إعادة ترتيب خطوط نفوذه شرق المتوسط، وتدعيمها، ولقبرص التركية اهمية في هذا الاطار. وهنا يأتي دور فرنسا والنزاع الدائر في المنطقة ودور الساحل اللبناني في المقابل، وخصوصاً اعادة اعمار مرفأ بيروت، الذي يشكّل بنداً اساسياً في المبادرة الفرنسية لحلّ الازمة اللبنانية.
صحيح انّ الازمة السياسية والانهيار الاقتصادي في لبنان مسألة لا علاقة لها بالنزاع الاقليمي مع تركيا. لكن ثمة جوانب ترتبط بمرفأ بيروت تتقاطع مع هذا النزاع الاقليمي. وعلى سبيل المثال، كان معبّراً قدوم قائد الجيوش الفرنسية الى مرفأ بيروت ومنحه قائد الجيش اللبناني وساماً فرنسياً رفيعاً على سطح فرقاطة فرنسية. وعند قدوم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى لبنان معلناً عن مبادرته، التقى علناً بموفد «حزب الله»، وهو ما عكس تقاطعات اقليمية ايضاً. لكن ثمة شيئاً تبدّل في سلوك «حزب الله»، ما ادّى الى اجهاض المبادرة الفرنسية، وتبع ذلك القاء ماكرون لومه على «حزب الله» بسبب الفشل في تأليف الحكومة.
وبخلاف الأجواء المعلنة، لم تكن ادارة ترامب ضدّ مبادرة ماكرون. وساد رأي واسع داخل الادارة الاميركية، كان احد رجالاته المسؤول الثالث في الخارجية الاميركية ديفيد هيل، حين قال، إنّه لا يمكن تأمين الاستقرار السياسي والامني في لبنان في حال تمّ تجاوز «حزب الله»، وبالتالي، فإنّ لقاء ماكرون مع رئيس كتلة «حزب الله» النيابية محمد رعد يسهّل مبادرته ويؤمّن الاستقرار السياسي المطلوب.
يومها اعطت واشنطن ضوءاً اصفر للمبادرة الفرنسية، فهي لم تدعم المبادرة، ولكنها في الوقت نفسه لم تسعَ الى عرقلتها. وما قيل عن العقوبات الاميركية، فإنّ مصادر ديبلوماسية اميركية تجزم بأنّها هدفت الى تسهيل هذه المبادرة لا العكس، وأنّ هذا ما حصل في بعض الجوانب، لكن ثمة خلفية اقليمية بدّلت في المعطيات، قد تكون ارتكزت على تقاطعات استجدت بين طهران وانقرة، واللعبة الاقليمية الكبرى بين طهران وواشنطن، والتي تستوجب تجميع اوراق لا التبذير بها.
واليوم، تأمل باريس في أن يتحول الضوء الاميركي من اصفر الى اخضر مع ادارة بايدن. والتواصل بدأ بقوة، من خلال احد اقرب مستشاري بايدن وهو انطوني بلينكن، الذي سيُعيّن وزيراً للخارجية. واذا صحّ ذلك، فإنّ المتوقع عودة اقوى للمبادرة الفرنسية الى لبنان، بعد تسلّم فريق بايدن زمام السلطة الاميركية.
ولكن، من الآن وحتى ذلك الوقت، مفاجآت نارية من ترامب قد تستمر حتى الدقائق الاخيرة من ولايته الرئاسية. فعلى سبيل المثال، جاء التلويح بعقوبات على المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس ابراهيم، في اطار سعي ترامب لزيادة العقبات والمعوقات امام ادارة بايدن في لبنان. وتفسير ذلك، انّ ترامب يريد قطع قناة التواصل الوحيدة وغير المباشرة بين واشنطن و»حزب الله» عبر ابراهيم، بحيث انّ هذه العقوبات تأتي لمنعه من القيام بهذا الدور، فيما كانت واشنطن قد استقرت على اختيارها له، بعد سنوات عدة من درس الوضع، ومن التركيز على انّ التواصل غير المباشر مع «حزب الله» يجب ان يمر بقناة شرعية لبنانية موثوقة من الجانبين.