كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يَنتظر الرئيس سعد الحريري حكومتَه على طريقة “أهواكَ بلا أمل”. فما يريده لا يَقْدِر عليه، وما يَقْدِر عليه لا يريده. ولذلك، وضَع مرسوم التكليف في جَيْبِه ونام، فيما الرئيس حَسّان دياب نائم “مِن زمان”، ولا شيء يوقظه. وهكذا، يكمل البلد رحلته في رحاب جهنَّم الحمراء!
مُستغرَبٌ حديث البعض عن موانع داخلية لتأليف الحكومة. كأن يُقال مثلاً إنّ السبب هو سوء العلاقة بين الحريري والوزير جبران باسيل والخلاف على الحصّة المسيحية. ففي الداخل، يتلهَّون بالحصص إلى أن تأتي “الكلمة السرّ” من الخارج. وحينذاك، تتكفَّل كلمةٌ واحدة، من واشنطن أو طهران أو سواهما، بإقناع مَن لا يَقنع، فتتألّف الحكومة في لحظة؟
اليوم، هذا هو مأزق الحريري. فالأميركيون والسعوديون طلبوا منه عدم تشكيل حكومةٍ يكون فيها لـ”حزب الله” يدٌ أو دورٌ أو نفوذٌ. وهو لا يجرؤ على معاكسة هذا القرار، خصوصاً بعد لوائح العقوبات الجاهزة التي تشمل كثيرين، حتى من الصفّ الأول. وبعد المسّ مباشرة بباسيل، بسبب تلاحمه مع “حزب الله”، يعتمد الحريري قاعدة “ما مِتت، ما شِفت مين مات”؟
ولكن، في المقابل، لا يجرؤ الحريري على تشكيل الحكومة خلافاً لإرادة “الحزب”. فلا مجال لمعاكسة الطرف الأقوى على الساحة اللبنانية والتمثيل الشيعي والغالبية النيابية. وهنا أيضاً تصبح قاعدة “ما مِتت ما شِفت مين مات” قابلة للتطبيق.
مِن سخريات القدَر أنّ “الثنائي الشيعي”، أي “حزب الله”، هو اليوم الداعم الأساسي للحريري، بعدما وقع الطلاق بينه وبين المسيحيين عموماً: الرئيس ميشال عون وفريقه السياسي، والدكتور سمير جعجع، وحتى بكركي التي لا تمنحه رضاها. وأما رئيس “المردة” سليمان فرنجية فلا يكفي وحده للتعويض.
هنا يجدر تسجيل الملاحظة الآتية: الحريري يحصل على قوة استمراره مكلَّفاً من “الثنائي” أي “الحزب”. وباسيل يحصل على القوة من العهد، والعهد يحظى بداعم أساسي هو “الحزب”. وهكذا، إنّ قوة الحريري وباسيل ومعظم الآخرين هي “من الحزب وإلى الحزب تعود”. فكيف لأحد، والحال هذه، أن يتجاوب مع المطالب الأميركية – السعودية بعزله عن الحكومة العتيدة؟
يدرك الحريري أنّه في تشرين الثاني 2017، عندما عاد من أزمة استقالته في السعودية، أطلق وعداً للسعوديين بأنّه سيحدّ من انزلاق حكومته في نهج “حزب الله”. لكنه لم يفِ بهذا الوعد أبداً، لأنّه ليس واقعياً.
وهذا الأمر يواجهه الحريري اليوم أيضاً، عندما تصل إليه الإشارة من وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود، ومفادها أنّ الدولة اللبنانية “تعجّ بالفساد بفعل سيطرة حزب الله”.
إذا قرّر الحريري الاستجابة إلى الأميركيين والسعوديين اليوم فستكون مغامرة له. وفي المقابل، إذا قرَّر الاستجابة لـ”حزب الله” فستكون مغامرة له أيضاً. إذاً، ماذا ينتظر وماذا سيفعل؟ وأساساً، لماذا وافق على العودة إلى السرايا ما دام يعرف الصعوبات التي سيصطدم بها؟
في الواقع، يلعب الحريري ورقة الفرنسيين الذين اعتقدوا أنّهم يمكن أن يحظوا بفسحة من التوافق بين واشنطن وطهران. لكنهم أُصيبوا بالخيبة وسقط رهانهم.
المشكلة أنّ الفرنسيين لا يملكون ثمناً يدفعونه لإيران كي توافق على تسوية موضعية في لبنان. وفي الموازاة، يقبل الأميركيون بالدور الفرنسي تحت سقفهم، أي إنهم يتجنبون إطلاق يد فرنسا فتتجاوزهم في لبنان. وبين المحورين المتصارعين، أصيب الرئيس إيمانويل ماكرون بالخيبة، ومعه صديقه الحريري.
كان الفرنسيون يراهنون على كسب الوقت لإمرار الانتخابات الرئاسية الأميركية فتظهر الصورة. لكن الإيراني قرَّر الانتظار أكثر، حتى 20 كانون الثاني المقبل ورحيل دونالد ترامب.
ولكن، ما يحدث في الشرق الأوسط يبدو أكبر من طاقة الفرنسيين. وفترة الشهرين الباقية من ولاية ترامب تبدو صاخبة جداً وحافلة بمفاجآت ستخلق وقائع جديدة يصعب على بايدن أن ينسفها أو يتجاهلها.
هذه المفاجآت قوامها 3 قوى إقليمية: إسرائيل، إيران والسعودية. وتوحي المناخات بنشوء تحالفات جديدة تخلط الأوراق بعنف على مجمل رقعة الشرق الأوسط. والأرجح أن ترامب مصرّ على تحقيق ذلك سريعاً جداً، أي قبل انتهاء ولايته.
عملياً، الخيار الذي ينقاد إليه الحريري هو الاعتذار. لكنه حتى اليوم يحرص على القول إنه ليس نسخة ثانية من الدكتور مصطفى أديب، وإنه لن يتخلّى عن تكليفه إطلاقاً، أي حتى تفرض عليه الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة ذلك، في ربيع 2022 وخريفه، إذا جرت في مواعيدها الدستورية طبعاً.
بنصيحة فرنسية، قرَّر الحريري أن ينام، وفي جيبِه التكليف، ما دام أحد لا يستطيع انتزاعه منه. ولن يكون الرئيس عون قادراً على “إقناعه” بالانسحاب تسهيلاً للحل لأن عون نفسه جاء بعد معاناة أكثر من عامين مع الفراغ، وهو الذي رفع عنوان: فليكن الفراغ حتى وصول الرئيس القوي.