كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
ليس من قبيل الاستعراض أن ترسل الولايات المتحدة طائرة «بي-52» المرعبة الى الشرق الأوسط، في ما وصف بأنّه «رسالة ردع» هدفها تطمين الحلفاء الإقليميين.
هذا التحرك يشي بسيناريو من اثنين: إما أنّ دونالد ترامب يستعد بالفعل لضربة عسكرية ضدّ إيران في ما تبقّى من ولايته الرئاسية، وهو ما سبق أن مهدّت له التسريبات الاعلامية بعيد انتخابات الثالث من تشرين الثاني؛ وأما أنّ السياسات الاميركية في الشهرين المقبلين ستمثل ذروة التصعيد في سياسة «الضغوط القصوى» في كل اتجاه، خصوصاً إذا ما أخفق الرئيس المنتهية ولايته من الحصول على ضوء أخضر من الكونغرس والبنتاغون للتحرك عسكرياً.
في كلا السيناريوهين، يمكن توقّع أياماً صعبة حتى منتصف كانون الثاني المقبل، لا شك أنّها ستنعكس مباشرة على الملف اللبناني، الذي دخل دائرة التدويل، على مرحلتين: الأولى بعد السابع عشر من تشرين الأول 2019، والثانية، وهنا نقطة الذروة، بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي.
انطلاقاً من ذلك، بات كل شيء في لبنان يدور في سياق الصراعات الخارجية المتشابكة:
اولاً، الصراع المفتوح الأميركي – الإيراني، وهو العامل الذي ظلّ محرّكاً للضغوط الأميركية ليس على «حزب الله» فحسب، وانما على لبنان ككل، وهو ما تبدّى بشكل جلي بعد الانتخابات النيابية عام 2018.
ثانياً، الصراع الفرنسي- التركي على منطقة شرق المتوسط، وهو صراع بات لبنان يشكّل أحد بؤره الساخنة، منذ اللحظة التي دخل فيها نادي الدول النفطية.
ثالثاً، الصراع الأميركي- الروسي العابر للقارات، والتي باتت احتمالاته متعددة، وجولاته تخاض بسياسة النَفَس الطويل المعتمدة تقليدياً في روسيا. وبالرغم من أنّ لبنان ليس في قائمة أولويات هذا الصراع، إلّا أنّ التأثيرات عليه تبدو كبيرة، بالنظر الى الامتدادات التاريخية والجغرافية مع سوريا.
رابعاً، الصراع الأميركي- الفرنسي الخفي بين حليفي ضفتي الأطلسي، والذي يُفسّر الى حدٍ كبير الاندفاعة الفرنسية الأخيرة تجاه أكثر من ملف في الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان.
في الظاهر، يبدو المشهد الدولي عنصراً يمكن القوى السياسية في لبنان من تبرير العبث الذي تقارب فيه الشؤون السياسية والاقتصادية، حتى أنّ العامل الخارجي تحول الى شماعة يعلّق عليها الكل خطاياهم والاعيبهم الصبيانية.
من القصور تحييد العامل الخارجي عن مسألة تشكيل الحكومة في لبنان، لا سيما أنّ البلاد كانت وستظلّ في عين العواصف الاقليمية. ومع ذلك، فإنّ العامل الخارجي نفسه يمكن ان يكون مسّهلاً، لو أنّ القائمين على شؤون البلاد امتلكوا رؤية مشتركة للاستفادة من التناقضات الخارجية واستثمارها داخلياً، على النحو الذي يوفّر فرصة للإنقاذ الذي بات مجرد شعار شعبوي.
لعلّ التناقض الأساسي الذي يفترض أن يمثل عنصراً لإخراج لبنان من عنق الزجاجة يتمثل في الطرف الفرنسي، الذي تبدو حاجته اليوم للبنان بقدر حاجة لبنان إليه، لا سيما أنّ باريس وجدت في انفجار مرفأ بيروت باباً لاندفاعة غير مسبوقة في احدى النقاط الاكثر أهمية في شرق المتوسط.
ليست مصادفة أنّ المبادرة التي طرحها الرئيس ايمانويل ماكرون قد ترافقت مع هذه الاندفاعة الفرنسية، وبلوغ صراعات شرق المتوسط نقطة الذروة، لا سيما بعد التحركات التركية الأخيرة في قبرص وليبيا وبؤر شرق متوسطية.
وليست مصادفة كذلك أن اختارت الولايات المتحدة تكثيف الضغوط على لبنان، من بوابة العقوبات على أكثر من مسؤول لبناني، وآخرهم (وليس أخيرهم بطبيعة الحال) جبران باسيل، سلاحاً يُشهر مع كل تقدّم يحصل على خط المبادرة الفرنسية، لا سيما أنّ العلاقات على ضفتي الأطلسي في عهد دونالد ترامب تتسمّ بطابع تنافسي، بعدما ظلّت لعقود ذات نمط «شراكي»، وهي حقيقة يمكن تلمسها على اكثر من ملف، وقد بات لبنان في صلبها منذ أن قرّرت باريس بعد انفجار الرابع من آب التحرّك باتجاهه.
في ظلّ هذه الخلفية كان ممكناً أن يُستثمر التناقض الفرنسي- الأميركي في سياق انجاح مبادرة ايمانويل ماكرون بدل إفشالها مرة تلو الأخرى، حتى بات الملف اللبناني يمثل مصدر خيبة وإحباط في الدوائر السياسية الباريسية، وهو أمر لم يعد حكراً على الغرف الديبلوماسية المغلقة، بل صار على لسان كل مسؤول فرنسي في معرض تطرقه الى الملف اللبناني.
هكذا يفوّت اللبنانيون فرصة نادرة لانحناء براغماتيكي أمام العاصفة الترامبية الهوجاء في ما تبقّى من اسابيع، يُفترض أن يسعى الرئيس الأميركي المنتهية ولايته الى تكبيل خلفه بالكثير من الأثقال، وذلك عبر التقاط اللحظة التي يمكن أن تشكّل فيها باريس عنصر امتصاص للصدمات الأميركية المتتالية، بانتظار انتقال السلطة في البيت الأبيض بحلول اواسط كانون الثاني المقبل، بدلاً من الانجرار الى «دفرسوار» من شأنه أن يقصم ظهر البلاد من بوابة الانهيار الاقتصادي والانفجار الاجتماعي… وربما الأمني.
ربما تكمن المشكلة الحقيقية في انّ معطلي تأليف الحكومة، محاطون بمستشارين يجهلون التعامل مع المتغيرات الخارجية، حيث انّ اقصى خبراتهم يقتصر على الاعيب السياسة الصبيانية، التي تقارب الوضع الداخلي، ولا سيما الحكومي، بمنطق عفا عليه الزمن، وان تلطوا فيه خلف شعارات شعبوية من قبيل «الميثاقية» و»وحدة المعايير» و»التدقيق المالي الجنائي» و»منظومة الفساد»، الى آخر تلك السرديات التي يحار فيها المرء ما اذا كان مطلقها معارضاً أم حاكماً!
بهذا المنطق تبدو عملية التكليف مجمّدة الى أجل غير محدّد، وتقف المقاربة الحكومية بالتالي عند سيناريو من اثنين، قد يشكّل أحدهما المخرَج النهائي للزيارات المملة التي يقوم بها الرئيس سعد الحريري إلى قصر بعبدا: اما أن يقلب الرئيس المكلّف الطاولة عبر تقديم مسودة حكومية ترمي بكرة التأليف في مرمى رئيس الجمهورية فيتحمّل وحده تبعات رفضها؛ وأما «الاتفاق على عدم الاتفاق»، بحيث يقامر الجميع في تأجيل الشأن الحكومي إلى ما بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض.
السيناريوهان خطيران بطبيعة الحال، فالخيار الأول يعني أنّ لبنان سيكون مفتوحاً على فصل اكثر خطورة من الصراعات السياسية بكل ارهاصاته الاقتصادية وربما الامنية؛ أما الخيار الثاني فيبدو مقامرة لا تقلّ خطورة، إن لجهة عامل الوقت، الذي لم يعد ترفاً طالما أنّ الفترة التي تفصل لبنان عن الانهيار باتت تقاس بتوقيت الأيام، أو لجهة المناخ المتوتر في الشرق الاوسط الذي قد ينفجر بركانه في أي وقت ويصبّ حممه على لبنان.