كتب ماجد جابر في صحيفة “الأخبار”:
لا يختلف تربويان على أن التقويم مكوّن أساسي في العملية التعليمية التعلمية، وشرط لازم للحكم على فعاليتها. وهو تطور بالتوازي مع بزوغ النظريات البيداغوجية والديداكتيكية المتلاحقة، فتوسعت وظائفه وأدواته، وتحوّل من عملية بسيطة تتوخى قياس مدى تذكر التلامذة لمعارف ملقّنة، إلى رؤية شاملة تغطي المجالات المعرفية والوجدانية والمهاراتية والميول والاتجاهات لدى التلامذة، وبشكل مستمر خلال التعلم، ما تطلب ابتكاراً لأدوات تقويمية غير معهودة، لمواكبة التطورات التربوية والتكنولوجية المتسارعة.
اعتمد التقويم، في العقود الماضية، على أدوات تقليدية ذات صبغة جماعية في المسار التعليمي التعلمي، ولا تزال هذه الأدوات تفرض ايقاعها لصعوبة الاستغناء عنها، وفي مقدمها الامتحانات وما انبثق عنها من انواع متعددة للاختبارات ( الكتاب المفتوح، الأسئلة المقالية، الاختيار من متعدد، الاختبارات القصيرة…). وما لبثت أدوات التقويم أن تطورت تماشياً مع التغيرات التربوية والتعليمية وتحقيقاً لشمولية التقويم لتشمل البطاقات المدرسية، المقابلات، اجراء الأبحاث، المشاركة في النشاط، الامتحانات المقننة بأنواعها، لاختبار القدرات العقلية العليا (التحليل، التركيب، والتقويم) والمهارات الانفعالية، فضلاً عن إثارة المشكلات والبحث عن حلول لها، والمقارنة، والبحث، والاستنباط، والاستنتاج، والنقد الموضوعي، وتنمية المهارات البحثية والاجتماعية والتواصلية والوجدانية وإدارة الذات، بدلا من أن تقتصر فقط على اختبار الذاكرة المعرفية البنكية لدى المتعلم.
في ظل جائحة كورونا، واعتماد التعليم عن بعد لضمان استمرارية التعليم وكفاءته خلال الأزمة، شكّل التقويم عن بعد التحدي الأكبر للمدارس والمعلمين والتلامذة والأهل لغياب آلية واضحة له. وجدت غالبية المدارس نفسها في ارباك غير معهود، وغير قادرة على استخدام أدوات تقويمية ملائمة، وبرزت الحاجة إلى ضرورة اعتماد وسائل تقويمية تتناسب وظروف التعلم المستجد، وتكون قادرة على قياس أداء المتعلم بموضوعية ودقة، فضلاً عن الكشف عن حاجات التلامذة وميولهم واستعداداتهم وقدراتهم.
وخرجت من صفوف التربويين أسئلة كثيرة منها: ما هي ادوات التقويم التي يمكن أن تعتمد عن بعد؟ وكيف يمكن توظيفها بفعالية لتعكس أداء التلميذ بدقة؟ وهل يضمن هذا التقويم مصداقية في القياس؟ وهل يمكن أن يتسم بالاستمرارية والتنوع والشمولية والمرونة، أم انه سيكون مرحلياً متقطعاً؟ وهل يمكن ان يراعي الفروقات الفردية بين التلامذة والذكاءات المتعددة؟ وهل يضمن تحقيق العدالة التعلمية بحدها الأدنى والصحة النفسية للمتعلم؟ وكيف يمكن للمعلم أن يختار الأدوات التي تتناسب وحاجات التلامذة وقدراتهم ومهاراتهم؟ وكيف يمكن اجراء اختبار إلكتروني صادق نضمن من خلاله عدم قيام التلميذ بمحاولات غش او بطلب مساعدة الآخرين؟
ويذهب تربويون آخرون إلى التساؤل أكثر حول ما اذا كنا قادرين على تحويل هذه الأزمة الى فرصة تمكننا من التحول من ثقافة الاختبار إلى ثقافة التقويم، وبالتالي تأمين الظروف لضمان اعتماد التقويم في خدمة التعلم، بحيث يصبح التلامذة قادرين على تحمل مسؤولياتهم وضبط التعلم والتحكم به.
قراءة عدد من الدراسات حول التعليم عن بعد ومعايشة التجربة الميدانية تقودان إلى استراتيجيات وادوات تقويمية يمكن استخدامها بموثوقية شرط الالتزام بقواعد تطبيقها. ويمكن تصنيفها، بحسب الغرض، من التقويم على الشكل الآتي: تقويم من أجل التعلم (يساعد على توفير تغذية راجعة تمكن من وضع خطة لزيادة التعلم)، وتقويم التعلم، والتقويم المتعدد الأبعاد. ومن هذه الأدوات:
– الاختبارات القصيرة: ينشئ المعلم أسئلة فردية ويجمعها في شكل اختبارات (صح أو خطأ، اختيار من متعدد، مطابقة) ويعرضها على التلامذة للإجابة عليها من خلال منصة التعليم التي تقوم بتصحيح تلقائي للإجابات. أهمية هذه الاختبارات تكمن في اعتمادها كتقويم تكويني مستمر، وإمكان دمجها ضمن اختبار كلي (تقريري) يتضمن أسئلة متنوعة مرتبطة بمهارات عقلية ذات مستويات مختلفة، ويسمح بتوفير وقت كبير للمعلمين خصوصاً في الصفوف الكبيرة، ويمكن ترتيبها عشوائياً عند الإجراء، فضلاً عن أنها تتيح إمكان إنشاء أسئلة بعدد كبير وتحفيظها أو تخزينها في بنوك الاختبار.
– الأسئلة المقالية: يعطي المعلم التلامذة، من خلال منصة التعليم او الـ«بلاك بورد» المعتمد، مقالة أو قصيدة أو مقطعاً نصياً….، ويطلب منهم تحليله وتفسيره في ضوء معايير محددة مسبقاً، ومن ثم يعيد تجميعها على المنصة نفسها. تساعد الأسئلة المقالية التلامذة على الصياغة والتعبير عن آرائهم حول موضوعات محددة، وتسهم في تطبيق مهارات التفكير العليا مثل التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي، واتخاذ القرار والاسلوب العلمي في حل المشكلات. يمكن للمعلم والتلامذة استخدام البريد الإلكتروني كبديل عن المنصة المعتمدة في حال تعرضها لمشكلات تقنية.
– اختبار الكتاب المفتوح: يضع المعلم أسئلة الاختبار على منصة التعليم المعتمدة، ويجمعها بشكل متزامن (يبدأ وينتهي التلامذة في الوقت نفسه)، أو بشكل غير متزامن من خلال منح التلامذة مدة زمنية محددة (نصف ساعة، ساعة…) لإكمال الاختبار في حال ظهور مشكلات تقنية طارئة على منصة التعليم او الـ«بلاك بورد» الخاص بالمدرسة، ويمكن اعتماد البريد الإلكتروني كبديل لاستلام إجابات المتعلمين. وتكمن أهمية هذا الاختبار في انه يساعد على تقييم مهارات التفكير في المستويات العليا عند التلامذة، وتقييم مدى قدرتهم على تطبيق معارفهم في الأسئلة والمشكلات التي يطرحها المعلم وفي قدرتهم على الوصول الى النصوص والموارد المطبوعة أو الرقمية التي يسمح المعلم بها اثناء الاختبار.
– المناظرات: تتم بشكل متزامن عبر نظام اللقاءات المباشر on line meeting المتوافرة في (Microsoft teams – zoom- webEx- Moodle- Google meet -…) بين مجموعة من التلامذة يقوم المعلم بتحديد عددها، وتتم خلالها مناقشة موضوعات او مسائل او تحديات واقعية. أهمية المناظرات أنها تعزّز مهارة التحدث والعرض التقديمي والتفكير النقدي عند التلميذ، والدفاع عن وجهة نظره، واحترام آراء زملائه، والمشاركة الفعالة والعميقة في الموضوعات، فضلاً انها تساعده على التوصل الى نتائج موضوعية وعلمية، مبنية وقائمة على حقائق، وليس على آراء ومعتقدات.
– العروض التقديمية: تتم من خلال نظام اللقاءات المباشر، إذ يستخدم التلميذ موارد مرئية (ملف، شرائح بوربوينت ppt، صور، ملصق post،…) حول موضوع معين، ومشاركتها مرئياً على الشاشة امام زملائه بالتزامن مع صوته خلال الشرح او العرض. تكمن أهمية الاختبار في انه يمنح التلميذ فرصة أكبر للمشاركة في العملية التعليمية ومعالجة المعرفة بنشاط، ويعزز مهارة العرض والتحدث عنده. ومن الضروري أن يزود المعلم التلامذة مسبقاً بالمعايير والتعليمات حول الأدوات والموارد التي يحتاجونها وكيفية استخدامها خلال تقديم العرض.
– ملف الإنجاز الإلكتروني e portfolio او الحقيبة الالكترونية: يحتوي هذا الملف على تجميع منظم لأعمال التلميذ المنجزة (أعمال كتابية مثل التعبير الإنشائي – رسومات – فروض – اختبارات تكوينية وتحصيلية – أشكال توضيحية…) خلال فصل دراسي، وتحت توجيه المعلم الذي يستخدمه كمرجع للتحقق من مدى تحقق المخرجات التعلمية عند التلميذ. يمكن تجميع ملف كل تلميذ على الـ«بلاك بورد» او منصة التعليم المدرسية ضمن خانة متعلقة بحفظ الملفات، ولكل مادة تعليمية على حدة، تمكن المعلم من الدخول إليها والاطلاع على محتواها، ووضع ما يراه مناسباً بها.
قد يشكّك كثيرون في صدقية الاختبارات التي ينجزها التلامذة من بيوتهم لناحية سهولة الغش وإمكان المساعدة من الآخرين (أهل، زملاء الصف عبر الإنبوكس…) ان لم يتم التأكد من الإجراءات والبيئة المصاحبة لعملية التقويم. لا خلاف ان هذا الشك في موضعه، لذا لا بد من استخدام تقنيات مناسبة لضمان الأمر، فيمكن استخدام الكاميرات الامامية والخلفية التي تظهر التلميذ خلال التقويم المباشر online assessment بوضعية 360 درجة، وقد يتم استخدام مرايا محدّبة لتحل مكان الكاميرا الامامية في حال الرغبة بتقليص التكلفة المادية. كما يمكن استخدام الأسئلة المباشرة للتلميذ عن التمارين والفروض، وقد يذهب البعض الى اعتماد برامج تقويم رقمية ذكية مثل flip grid وclass flow او kahoot وغيرها. أكثر من ذلك، قد يعتمد البعض تقنيات أكثر ابتكاراً (بيومترية Biometric كبصمة الصوت والعين). يتطلب توافرها إمكانات عالية لا قدرة للغالبية العظمى من المدارس وأهالي التلامذة للحصول عليها. لكن الثقة في التواصل بين المعلم والتلميذ خلال إجراء التقويم تغرس في المتعلم حس المسؤولية والصدق، والاعتزاز بالنفس والقيمة الشخصية، بدلاً من أن نضع التلميذ تحت مجهر المراقبة التقنية المشددة لما لها من انعكاس سلبي على صحته النفسية.