كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
إنّ “التِّمريكة الثقيلة” التي صدرت عن شخصية سياسية مسؤولة في حق القضاء يبدو أنها لن تمر مرور الكرام كسابقاتها، إذ تفيد المعلومات انّ الجسم القضائي لن يَغضّ الطرف عنها، ويُصرّ، بقيادة مجلس القضاء الأعلى وهيئة القضايا اللتين تساندهما نقابة المحامين، على مقاضاة وزير الداخلية محمد فهمي بتهمة “الاساءة للقضاة، وإهانته 95 % منهم” بطريقة غير مسبوقة من على المنابر الاعلامية، حيث اتهمهم بالفساد. فتَوعّد هؤلاء بأنّ تحقير القضاء والقضاة سيعاقب عليه القانون، وسيتم الادعاء على المحقّرين ومحاسبتهم ولو كان المتهم وزير الداخلية.
مصادر قضائية رفيعة أكدت لـ«الجمهورية» إصرار مجلس القضاء على مقاضاة وزير الداخلية، فيما تجاهَل المجلس، رئيساً وأعضاء، النداءات المطالِبة بإمرار «التِّمريكة»، وعلى حد قول أحد القضاة أمام مجموعة من المحامين: «إكتفَينا من فهمي… وهالتِّمريكة لن تمر علينا»، فيما أفرغَ بعض المحامين في الجلسة ما في قلوبهم «المليانة» من فهمي بالتوضيح انّ القصة بينهم وبين وزير الداخلية لم تبدأ فعلاً بعد إطلاق حكمه على القضاة عبر شاشة إعلامية، بل بدأت عندما اتخذ قراراً غير مفهوم بمُقاضاة هؤلاء من خلال عدم استثنائهم من قرار الاقفال التام الذي صدر أخيراً، فمنعهم من مزاولة مهماتهم مخالفاً القوانين الدستورية والاستثنائية التي صدرت مسبقاً بقرار رسمي وبموافقة رئيسَي الجمهورية والحكومة، فخرقَ القرار ولم يوافق على أن يشمل الاستثناء القضاة والمحامين من قرار التجوّل. وعلى رغم من مناشدات عدة ومقالات وتعليقات صدرت عن قضاة ومحامين عبر الوسائل الاعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تُناشِد فهمي العدول عن قراره وشَمْلِهم بالاستثناءات، إلّا أنه «لم يكن لبيباً ولم يفهم من الاشارة»، وفق تعليق أحد المحامين.
وترى المصادر القضائية أنّ بيان نقابة المحامين المؤيّد مقاضاة فهمي، والذي جاء بمثابة دعم إضافي لقرار مجلس القضاء، حمل في طيّاته «انتقاماً» من وزير الداخلية «جاء في وقته»، أو يمكن القول انه سمح لهم بإصابة مباشرة بعد تشبّث الأخير بعدم ضَم المحامين والقضاة الى لائحة الاستثناءات في قرار الاقفال التام.
وكانت لافتة الرسالة التي وجّهها المحامي والخبير الدستوري سعيد مالك الى معالي وزير الداخلية منذ أسبوع يسأله فيها: «كيف تستثني بعض القطاعات والمصالح والمهن وتُحجِم عن استثناء القضاة والمحامين رغم ورود استثنائهم أصولاً ضمن قرار سابق لمجلس الوزراء بموافقة استثنائية لرئيس الدولة ورئيس الحكومة، الأمر الذي خلق بلبلة في أوساط القضاة والمحامين؟».
ويُضاف الى ذلك خرق فهمي البيان الصادر عن نقابة المحامين، والذي أجازت بموجبه للمحامين أداء رسالتهم يومياً بلا قيود على حركتهم من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساءً إحقاقاً للمصلحة العامة، إلّا أنها تفاجأت بمحاضر ضبط سَطّرتها القوى الامنية في حق العشرات من المحامين الذين قصدوا قصور العدل.
وهكذا تعقّدت المسألة مع فهمي ومع الجسم القضائي ومع المحامين، الأمر الذي طرحَ أكثر من علامة استفهام حول الدوافع والابعاد! في المقابل استدرك وزير الداخلية عواقب تصريحه وحكمه علانية على قضاة لبنان، مُستسهلاً ما قاله ومعتبراً انه «كان بمثابة تنبيه لِحَض القضاة على تحريك ملفاتهم القابعة في الجوارير».
فهمي… ظاهرة
في التطبيق، ترى مصادر قضائية انّ ما صدر عن مسؤول في الدولة في حق الدولة يعتبر «ظاهرة»، إذ من غير المسموح لوزير التعرّض للقضاء، فيَصِف 95 % من القضاة بأنهم فاسدون، معتبرةً أنّ كلامه «غير مقبول». وبالتالي، من الضروري أن يبادر مجلس القضاء الاعلى الى الإدعاء على وزير الداخلية. أمّا آلية الادعاء فتبدأ من النيابة العامة التمييزية، ثم يُحال الملف الى القضاء العادي ضمن إطار مواد الادعاء، ثم الى قاضي التحقيق الاول في بيروت. أمّا اذا اعتبر انّ الفعل او الجرم حصل في جبل لبنان، فيُحال الادعاء من النيابة التمييزية الى النائب العام الاستئنافي المحقق الاول، أي القاضي منصور القاعي، الذي بدوره يصدر قراراً ظنياً في حق وزير الداخلية.
وترى المصادر القضائية انه يمكن لوزير الداخلية في هذه الحال ان يُدلي بشهادته، ويعتبر انّ الدعوى هي من اختصاص المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إلّا أنّ هذا القول لا يستقيم، بحسب تلك المصادر، لأنّ ما صَرّح به الوزير يُعتبر من الجرائم العادية غير المرتبطة بالوظيفة، أي أنه يحاكَم كأيّ شخص عادي أمام القضاء العادي، بدءاً من تحريك الدعوى العامة في النيابة التمييزية الى النيابة الاستئنافية، الى قاضي التحقيق، الى قاضٍ منفرد جزائي، أي وفق المسار الطبيعي للدعوى.
عن مسار الدعوى
وعن آلية الدعوى، تشير مصادر حقوقية الى انّ لقاضي التحقيق فقط الحُكم على فعل الوزير، إذ يمكن اعتباره «جنحة»، فيُحيله الى قاضٍ منفرد جزائي. أمّا إذا رأى انه «جناية»، فيحيله الى الهيئة الاتهامية التي بدورها ستحيله الى محكمة الجنايات. وتوضح المصادر «انّ هذه الآلية هي الآلية الطبيعية لفِعل مُشابه او لتهمة مشابهة تصدر عن اي شخصية مسؤولة او عادية تتطرّق الى القضاء او القضاة بغضّ النظر عما اذا كان وزيراً للداخلية، فتستدعيه النيابة العامة وتحقق معه وتدّعي عليه بتهمة القدح والذم بالقضاء».
وترجّح المصادر القضائية أن تتقدّم رئيسة هيئة القضايا هيلانة اسكندر بدعوى باسم الدولة اللبنانية ضد فهمي، خصوصاً بعد طلب مجلس القضاء الأعلى الادّعاء عليه، علماً أنّ اسكندر هي عضو في المجلس، وهذا يعني انها حُكماً ستتقدم بالدعوى ضد فهمي باسم الدولة اللبنانية.
هل سيُحاكم وزير؟
وفي انتظار أن يشهد اللبنانيون محاكمة وزير، وما إذا كانت هذه الآلية ستطبّق على وزير الداخلية تحديداً أم ستعترضها كالعادة أفخاخ أو «فيتوات» سياسية او طائفية ممانعة، لفتت أوساط سياسية مراقبة الى أنها لا تتوقع اي دعم او فرملة للدعوى المقامة ضد فهمي بواسطة اي طرف سياسي، لأنّ الوزير المعني لا ينتمي الى اي جهة سياسية او ميليشيوية او حزبية. وذهبت هذه الاوساط بعيداً في الترجيح أنه، وبعكس المعهود، ستتغاضى الاطراف السياسية عن لَفلفة الدعوى وستلتقِط «كبش محرقتها» لِتُثبت، ولو لمرة واحدة، أنها تتقيّد بمبدأ المُساءلة والمحاسبة… ولو على حساب وزير في حكومتها.