كتبت رلى إبراهيم في “الاخبار”:
30 ألف نوع من المزروعات، ما بين أشجار زيتون وصنوبر وورود وشُجيرات ونباتات، يُفترض أنها زُرعت في حدائق العاصمة وشوارعها ووسطيّاتها قبل نحو عام ونصف عام. لكنّ أحداً لم يلمح هذا «المشتل الفسيح» الذي كلّف بلدية بيروت أكثر من 5 ملايين دولار، تحت عنوان «التشجير»، ليتبين أن مناقصة التشجير الوهمية التي سُلّمت لشركة مقاولات صيانة الحدائق والوسطيات، لم تكن سوى غطاء لتوظيفات سياسية للأحزاب الممثلة في المجلس البلدي، وفي مقدّمها تيار المستقبل. منذ سنوات، يستخدم رؤساء البلديات الذين تعاقبوا على العاصمة، بالتواطؤ مع المحافظين، أموال البلدية لتشغيل حاشية الزعيم السياسي وتسييل عقاراته وخدمة مصالحه الانتخابية، فيما تحلّ المصلحة العامة بعيداً في أسفل سلّم الأولويات.
ثمانية مليارات ليرة (ما كان يوازي أكثر من خمسة ملايين دولار) دفعتها بلدية بيروت عام 2018 مقابل عقد لمدة سنة لتأهيل حدائق العاصمة ووسطيّاتها وريّها وصيانتها. دفتر الشروط الذي فازت شركة «هايكون» بالمناقصة على أساسه، نصّ على أن «تُشتل» بيروت بـ30 ألف نوع من المزروعات، ما بين أشجار كبيرة كالزيتون والصنوبر والزنزلخت وغيرها (2600 شجرة)، وشجيرات صغيرة (12000)، ونباتات مزهرة دائمة (4000)، ونباتات مزهرة موسمية (12000). عقد كهذا كان كفيلاً بتحويل المدينة إلى حديقة كبيرة. لكن جولة في شوارع العاصمة وعلى حدائقها ووسطياتها القاحلة التي يغزوها العشب اليابس، توحي بأن «التشجير» و«التزهير» لم يمرّا عليها، لا اليوم ولا قبل عام.
إذاً، على ماذا صُرفت مليارات الليرات من أموال المكلّفين من سكان بيروت، ولماذا وُظّف 350 عاملاً (بينهم 150 ناطوراً) بكلفة تصل إلى نحو 3 مليارات ليرة؟ كالعادة، البحث عن الأسباب يقود دائماً إلى سلسلة من التبريرات غير المقنعة، ومن تقاذف التهم بين المجلس البلدي والإدارات المعنية في البلدية والمحافظ السابق. وكالعادة، أيضاً، تنتهي مثل هذه الأمور الى «اللفلفة»… لولا أن المحافظ الجديد القاضي مروان عبود هو من كان يراقب، من منصبه السابق في ديوان المحاسبة، أداء البلدية ودهاليز متاهتها التي لا تنتهي.
أين أشجار الزيتون؟
رئيسة دائرة الحدائق في البلدية، مايا الرحباني، تشير إلى أن معظم ما زُرع أصابه اليباس لعدم تجديد العقد مع «هايكون»، ما ترك الأشجار والنباتات عطشى لثلاثة أشهر في عزّ الصيف، ناهيك بتعرّض بعضها للتلف، ولا سيما وسطيات ساحة الشهداء والـ«داون تاون»، بسبب التظاهرات التي شهدتها المنطقة بعد 17 تشرين الأول 2019. وتؤكد في تقرير حول خلاصة عمل الشركة، بناءً على طلب من المحافظ، أن عمل «هايكون» لا تشوبه شائبة، من تشحيل الأشجار على الأرصفة والطرقات والحدائق والساحات إلى التعشيب والريّ والتنظيف. لا بل قامت الشركة، وفق الرحباني، بأكثر مما هو مطلوب منها في دفتر الشروط، فعمدت إلى زيادة كمية المزروعات في الملعب البلدي ووسطيات كورنيش المزرعة وبشارة الخوري ودي غول وبيار الجميل وساحة إبراهيم عبد العال والشيخ زايد وفينيسيا وتمثال المغترب ووزارة الداخلية!
في اتصال مع «الأخبار»، كرّرت الرحباني أن عمل الشركة «ممتاز». ولدى سؤالها عن المواقع التي زُرعت بالزيتون والصنوبر والزنزلخت وغيرها، أجابت بأنها ليست المسؤولة عن الملف، محيلة الأمر إلى المهندس بيار الفغالي، رغم أن محاضر استلام سير العمل كانت تُوقع من رئيسة الوحدة المختصة، أي الرحباني نفسها.
من جهته، يؤكد الفغالي (المهندس المكلف من دائرة الحدائق في البلدية) أن «الزرع تمّ وفقاً للأصول، ولكن لم تجر صيانة هذه المزروعات وريّها كما يجب لترسيخ جذورها في الأرض. ومع وقف المجلس البلدي لعقد الشركة، تُركت آلاف الأشجار والورود من دون ريّ، فذبلت». لكن ماذا عن السلف المالية الكثيرة بقيمة 20 مليون ليرة لكل منها التي أقرّها المجلس البلدي لريّ المزروعات؟ يعتبر الفغالي أن «سلف الـ20 مليوناً لا تكفي الأشجار المزروعة». علماً أن لدى البلدية آليات للريّ، وهي غالباً ما تطلب مساعدة فوج الإطفاء في موضوع الريّ.
أين زرعت الشركة أشجار الزيتون والصنوبر؟ يجيب الفغالي: «إننا نتكلم عن عمل نُفذ منذ عام ونصف عام ومن الصعب تذكر هذه التفاصيل… ربما في المزرعة»! وعمّا إذا كان المشروع يحتاج إلى 350 عاملاً بينهم 150 ناطوراً؟ أكّد أن «عدد العمال أقل من المطلوب. إذ ينبغي أن يكون هناك 150 ناطوراً و150 للزراعة والتعشيب والتنظيف و50 للمداومة اليومية».
وتجدر الإشارة إلى أن أحد شروط المجلس البلدي لإتمام العقد كان تعيين نصف عدد العمال من مدينة بيروت. حصل ذلك بالتزامن مع موسم الانتخابات النيابية. ويؤكد أكثر من عضو بلدي أن «التشجير» كان واحداً من ملفات كثيرة استُخدمت مظلة لتنفيعات حزبية وانتخابية بحتة. جولة على بعض الوسطيات والأحواض والحدائق التي تضم عدداً قليلاً من المزروعات الهزيلة تؤكّد المؤكّد. أحد المسؤولين في البلدية يؤكد أن قيمة ما تبقّى من مزروعات وأشجار اليوم لا تتعدّى الـ 100 ألف دولار وفق أسعار الصرف الذي كانت عليه يوم زُرعت. المفارقة أن حديقة المفتي حسن خالد في منطقة عائشة بكّار أُدرجت ضمن الحدائق التي لحقها التشجير، وهي الحديقة نفسها التي «نعفتها» البلدية وقطعت أشجارها لإقامة مرآب للسيارات تحتها! في البلدية، يوجّه كثيرون أصابع الاتهام إلى المحافظ السابق زياد شبيب لأنه كان صاحب التوقيع الأخير على محاضر لجان الاستلام، وهو المسؤول عن الحرص على حسن تنفيذ دفتر الشروط. أما شبيب، من جهته، فيؤكد لـ«الأخبار» أن مهمة الاستلام تقع على عاتق المهندسين الزراعيين الذين يراقبون عمل الشركة عن قرب وبشكل يومي. «توقيع لجنة الاستلام يعني أن الأمور تسير جيداً، واللجنة مؤلفة من رئيس الوحدة المختصة (مايا الرحباني) ومن مهندسين اثنين (بيار الفغالي ومنى عماش)، وهي خاضعة لرقابة التفتيش البلدي والمركزي. لذلك، عندما أرى المحضر موقّعاً من الدائرة المختصة، أوقّعه بدوري».
متعهّد يكلّف متعهّداً
بعيداً عن الأشجار «الضائعة»، ثمة علامات استفهام حول المناقصة نفسها. فهذه بتّت فيها لجنة المناقصات التي يرأسها رئيس المجلس البلدي جمال عيتاني. المجلس هذا وضع دفتر شروط «صودف» أنه جاء على قياس شركة «هايكون». الشركة هذه «صودف»، أيضاً، أن من يرأس مجلس إدارتها ليس إلا عماد الخطيب، مرشح تيار المستقبل في الانتخابات النيابية السابقة في قضاء مرجعيون، وأحد رجال الأعمال المحظيين في بيت الوسط. الأكثر سوريالية أن «هايكون» التي وجدها المجلس البلدي وجدها الأكفأ لتسلّم ملف المزروعات، تعمل أساساً في مجال المقاولات! لذا، كان من البديهي أن تعمد شركة لا توظّف مهندسين زراعيين وليس بين معدّاتها مقصات تشحيل، إلى تلزيم عملها لمتعهد ثانوي. الرواية التي يؤكدها أكثر من مصدر في البلدية تؤكّد أن «شركة خليل زيدان» اشترت «الصفقة» من الخطيب بسعر يوازي 20% من قيمتها الإجمالية، ما يعني أن الربح الصافي لـ«هايكون»، من دون أن «تنكش» حوضاً أو «تضرب رفشاً» يصل إلى 80%!
شبيب يؤكد أن المتعهد الوحيد لدى البلدية كان شركة «هايكون»، وأنه «لم يكن هناك أي متعهد ثانوي لأنه في هذه الحالة كان يفترض أن يصوغ عقداً آخر مع البلدية كما ينص القانون». المفارقة أن ما لا يريد المحافظ أن يصدّقه، يؤكده زيدان نفسه. الأخير يقول إنه كان «ساب كونتراكتور» (متعاقد من الباطن)، وإنه نفّذ «كل ما هو مطلوب في دفتر الشروط لجهة الزرع والتشحيل والصيانة»، ونفّذ «أعمالاً غير مطلوبة، كاستحداث حدائق جديدة في ساسين وقرب جامع الصفا في رأس النبع». ويشير إلى أن في حوزته «كل المستندات والصور» التي تثبت صحة كلامه.
قد تكون فرضية تطبيق العقد بحذافيره واردة، لكن الثابت أن بلدية بيروت صرفت 8 مليارات ليرة على أشجار ونباتات وشجيرات وزهور لم تصمد شهراً واحداً! ثمة من يتحدث عن سوء انتقاء لأنواع المزروعات، وآخرون عن تعيين عمال ساهموا في تلف الشتول لأنهم لا يتقنون المهنة. لكنّ زيدان يؤكد أن «المهندسين الزراعيين هم من تسلموا الأعمال، وغالباً ما كان أعضاء من المجلس ورئيسه جمال عيتاني يحضرون عند زرع الأماكن الرئيسية ويلتقطون «سلفيات» مع ابتسامات عريضة. لكنّ الشجرة أو الوردة تحتاج إلى ماء وهذا لم يتمّ تأمينه».
«لسبب ما»، بحسب زيدان، رفض عيتاني التجديد لـ «هايكون»، وهو «قال حرفياً: ما بدي مشّي العقد. أنا بعرف كيف اهتم ببيروت». وما حصل أن «النكايات أدّت إلى عدم صيانة وتعشيب ما سلمناهم إياه بحالة ممتازة، فضربها اليباس كلها». أما الكلام عن أن هذا الملف لم يكن سوى غطاء لحفلة توظيفات بالتزامن مع الانتخابات، فينفيه زيدان تماماً، لأن «كل دائرة في بيروت تحتاج إلى ما بين 40 و50 عاملاً على الأرض».
تعقّب مصادر بلدية على كلام زيدان بالإشارة إلى أن محاضر الاستلام «تعرّضت لتزوير بالتواطؤ مع موظفين في البلدية. إذ تم تعديل دفتر الشروط، لكن ليس ورقياً كي لا يمر بديوان المحاسبة مجدداً». وتضيف: «الورق شيء والأرض شيء مختلف تماماً. لم نر شجر زيتون أو صنوبر. جُلّ ما زرع هو بعض ورود على مساحات متباعدة لتمرير الغاية الأصلية من هذا المشروع وهي توظيفات السياسيين الوهمية. أما المتعهد الثانوي فهو دليل إضافي على أن المناقصة وهمية وإلا لكان زيدان تقدم للمناقصة وربح بنفسه. هذا واحدٌ من أساليب النهب وعمليات الفساد المنظّم التي تجري في البلديات».
من يحاسب البلدية أو المتعهد الأساسي أو المتعهد الثانوي على أي ارتكابات؟ على الأرجح، لا أحد. فالتفتيش المركزي غائب والأجهزة القضائية مُغشى عليها.
ما سبق ليس استثناء. نهج ارتكاب المخالفات ثم محو آثارها وتمييعها يتكرر في كل المناقصات التي تُجريها البلدية. وهو غالباً ما يُستتبع بمحاولات المجلس البلدي التنصّل من المسؤولية متذرّعاً بالحجة نفسها: المجلس مجرد سلطة تقريرية فيما السلطة التنفيذية في يد المحافظ. هكذا، تؤكد مصادر قريبة من رئيس البلدية أن المجلس طلب مراراً من المحافظ السابق تزويده بتقرير مفصّل عمّا نُفذ من هذا العقد، إلا أن الأخير لم يتجاوب. هذا حصل فعلاً، إلا أن أحداً لم يجد نفسه معنياً بالمطالبة مجدداً أو الحديث في العلن عن قضايا تتعلق بهدر مال عام.