كتب العميد الركن المتقاعد الدكتور رياض شـيّا في “اللواء”:
تعرض الحلقة الثانية من دراسة «لبنان ومأساة ترسيم الحدود الجنوبية» التي تعرض لمراحل ترسيم حدود لبنان الجنوبية، برّاً وبحراً، بما يشمل مسألة النزاع اللبناني – الإسرائيلي القائم في مسألة ترسيم الحدود البحرية، موضوع ترسيم الخط الأزرق بعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000.
ما هو الخط الأزرق؟
في 15 آذار 1978، شنّت إسرائيل هجوماً واسعاً على جنوب لبنان في عملية أسمتها «عملية الليطاني» محتلةً مساحة كبيرة تتجاوز الألفي كيلومتر مربع. أصدر مجلس الأمن إثر ذلك القرارين الشهيرين 425 و426، وطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري واحترام وحدة أراضي لبنان وسيادته، كما أنشأ القوة الدولية المؤقتة – اليونيفيل التي لاتزال موجودة الى اليوم. لكنّ إسرائيل استمرت في احتلالها لأكثر من عشرين عاماً، الى حين أعلنت في 2 نيسان 1998 رغبتها بالانسحاب تطبيقاً للقرار 425، مطالبة الحكومة اللبناني بالتفاوض حول الترتيبات اللازمة للانسحاب. ومع رفض الحكومة اللبنانية الدخول في أية ترتيبات مع إسرائيل ومطالبتها إيّاها بالانسحاب الكامل الفوري من جميع الأراضي اللبنانية، قامت الأمم المتحدة بالتدخل وعيّنت وسيطاّ دولياّ للمساعدة في تطبيق القرار 425 وإتمام الانسحاب الإسرائيلي. وفي سبيل التوفيق بين المواقف المتعارضة وتأمين الانسحاب الاسرائيلي، قامت الأمم المتحدة برسم «خط الانسحاب» وأسمته «الخط الأزرق»، وهو الخط الأقرب الى الحدود الدولية اللبنانية-الإسرائيلية، دون أن يعتبر هذا الخط إطلاقاً خط الحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل.
بعد الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب اللبناني في 24 أيار عام 2000، أرسلت الأمم المتحدة فريقاً طبوغرافياً للانضمام الى الفريق التقني التابع لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – اليونيفيل للتثبت من الانسحاب الاسرائيلي. بالمقابل، وبعد دراسة الخط الأزرق، وافقت الحكومة اللبنانية عليه مع التحفظ على المناطق التي لا يتطابق فيها الخط الأزرق مع الحدود الدولية، وهي بالأساس ثلاث مناطق (رميش، مسكفعام، وطريق المطلة-الجسر الروماني). ومن ثم شُكلت لجنة عسكرية متخصصة من الجيش اللبناني للعمل مع فريق الأمم المتحدة للتأكد من الانسحاب وتثبيت الخط الأزرق.
جرت عملية التثبت الميداني من الانسحاب الاسرائيلي من قبل فريقي الأمم المتحدة والجيش اللبناني خلال شهري حزيران وتموز من العام 2000، فتبيّن عدم تطابق الخط الأزرق والحدود الدولية، ووجود الكثير من الخروقات واستمرار وجود مراكز اسرائيلية في الأراضي اللبنانية. تمكنت عملية التثبت الميداني من إزالة الكثير من التعديات الإسرائيلية على الخط الأزرق، إلاّ أنّ الخط الأزرق نفسه يبتعد عن الحدود الدولية في ثلاث مناطق رئيسية، ما سمح لإسرائيل باستمرار احتلالها لهذه المناطق الثلاث وهي: الأولى، في منطقة رأس الناقورة، حيث قام الإسرائيليون خلال عملية الترسيم للخط الأزرق بنقل البوابة الاسرائيلية، الواقعة أصلاً على الحدود، مسافة 18 متراً داخل الأرض اللبنانية لتصبح على الخط الأزرق الذي يمتد بنفس المسافة بعيداً عن الحدود الدولية في تلك المنطقة؛ النقطة الثانية، هي في منطقة مستعمرة مسكفعام، فقد اقتطع الخط الأزرق التلة المشرفة على بلدتي العديسة وكفركلا والقرى المجاورة، ما سمح لإسرائيل بالبقاء في هذه التلة المحتلة؛ أما المنطقة الثالثة، فهي مرور الخط الأزرق شمال الطريق الذي يربط المطلة بالجسر الروماني، أي جعل ذلك الطريق تحت السيطرة الاسرائيلية مخالفاً في ذلك الحدود الدولية المعترف بها بين لبنان وإسرائيل التي هي جنوب ذلك الطريق.
يضاف الى المناطق الثلاث التي ابتعد فيها الخط الأزرق عن الحدود الدولية وسمح لإسرائيل بالبقاء فيها، سجلت السلطات اللبنانية تحفظها على الخط الأزرق لمروره في وسط بلدة الغجر ولعدم شموله تلال كفرشوبا ومزارع شبعا كونها أراضٍ لبنانية محتلة وعلى اسرائيل الانسحاب منها.
جرى التحفظ من قبل السلطات اللبنانية على هذه التعديات، واعتبرت أنّ إسرائيل لا تزال تحتل أراضٍ لبنانية، وهي بالتالي لم تنفذ القرار 425 بالكامل كما ادّعت. كما أن السلطات اللبنانية اعترضت على الخط الأزرق نفسه الذي أعلن عنه في عجلة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة تسريعاً لتطبيق القرار 425 إذ أكد أنّ إسرائيل انسحبت وفقاً لهذا الخط قبل الانتهاء من تثبيته على الأرض وقبل التأكد من أنّ إسرائيل قد انسحبت فعلاً من جميع الأراضي اللبنانية. لكنّ السلطات اللبنانية وافقت على الخط، برغم الاشكالات التي رافقته، بهدف التخلص من الاحتلال الاسرائيلي للجنوب.
وبعد التثبت اللاحق من الانسحاب الاسرائيلي وفقاً للخط الأزرق، انتشرت قوات الأمم المتحدة اليونيفيل على طول هذا الخط. واستمر هذا الوضع على هذه الوتيرة لحين صدور القرار 1701 على إثر حرب تموز 2006 الذي سنعالجه فيما يلي.
تعليم الخط الأزرق بعد صدور القرار 1701
في الثاني عشر من تموز 2006، نفذت المقاومة عملية عسكرية على الجيش الإسرائيلي، أسرت فيها عدداً من جنوده. عندها شنت إسرائيل عدواناً واسعاً على لبنان شمل غارات جوّية استهدفت البنى التحتية في عمق الأراضي اللبنانية، وبشكل رئيسي الجسور والطرقات، في الوقت الذي اجتازت فيه القوات الاسرائيلية الخط الأزرق في عدة محاور مهاجمةً القرى والبلدات اللبنانية المقابلة، حيث جرى مواجهتها بمقاومة عنيفة كبّدتها خسائر كبيرة، كما تسبب العدوان بنزوح معظم سكان الجنوب واللجوء الى المناطق الداخلية. وبعد ثلاثة وثلاثين يوماً من المعارك والقصف الاسرائيلي المدمّر، أصدر مجلس الأمن القرار 1701 في 11 آب 2006، الذي دعا لوقف الأعمال العدائية وانسحاب إسرائيل وانتشار اليونيفيل والجيش اللبناني. كما دعا الى احترام الخط الأزرق، وتأكيده على سلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي داخل حدوده المعترف بها دولياً حسب ما ورد في اتفاق الهدنة العامة بين لبنان وإسرائيل المؤرخ في 23 آذار/مارس 1949، وغير ذلك من الإجراءات العملية التي تهدف لحفظ الأمن والاستقرار وتعزيز سيادة الدولة اللبنانية.
بعد زيادة عدد قوات اليونيفيل الى خمسة عشر ألف جندي، وحوالي خمسة عشر ألف جندي من الجيش اللبناني، وانتشار هذه القوى في المنطقة الممتدة من جنوب الليطاني وصولاً الى الخط الأزرق، رأت قيادة القوات الدولية ضرورة إعادة تعليم الخط الأزرق وجعله أكثر وضوحاً وتمييزاً، وذلك منعاً للاحتكاك مع الاسرائيليين. أعيد تعليم الخط الأزرق من قبل قوات اليونيفيل بالتعاون مع لجنة من الجيش اللبناني وأخرى إسرائيلية، واستمرت عملية التعليم حوالي عشر سنوات، بسبب العراقيل الاسرائيلية، جرى خلالها وضع علامات واضحة (براميل زرقاء) على الخط الأزرق حيث يتطابق مع الحدود الدولية، أما المناطق والنقاط التي يوجد تحفظ عليها، وعددها ثلاث عشرة نقطة، فلم يجرِ تعليمها. أمّا نقاط (أو مناطق) التحفظ فهي التالية: النقطة الحدودية في رأس الناقورة، 3 نقاط في علما الشعب، منطقة البستان، منطقة مروحين، منطقة رميش، المنطقة ما بين يارون ومارون الراس، منطقة بليدا، بقعة بين ميس الجبل وحولا، منطقة العديسة، الطريق ما بين العديسة وكفركلا، نقطة الحدود الأخيرة بين المطلّة والوزاني.
على الرغم من فداحة التعديات التي أظهرها تعليم الخط الأزرق، والمعبّر عنها في التحفظات المشار اليها أعلاه، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي الانجازات التي تحققت من خلال نجاح عملية تعليم النقاط الحدودية التي يتطابق فيها الخط الأزرق مع الحدود الدولية وجعلها واضحة ما يسهّل مهمة الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل.