كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
كلما انزلقنا أكثر في السواد السياسي والاقتصادي أطلّ من يُنذر أمنياً بالويل والثبور وعظائم الأمور، متوّجاً إنذاره “باغتيالات داهمة وبأعمال أمنية طارئة”. نصدق أم لا؟ ولماذا يُنذر الجمهور بها بدل أن تهب “ما تبقى من دولة” للحيلولة دون حدوثها؟ وكيف تتوارد المعلومات الى “المنذر”؟ وما هو مفهوم الأمن المجتمعي؟ وهل الأجهزة الأمنية تستخدم هكذا “إنذارات” شماعة لغرضٍ في نفس يعقوب أم كضرورة مجتمعية؟
تكاد لا تخلو إطلالة لسياسي أو لجنرالٍ سابق بلا تطرق الى اغتيالات تُدبّر وسيناريوات أمنية تستعدّ لها قوى إرهابية والمخيمات الفلسطينية قد تكون نواة في بعضها. وزير الداخلية السابق العميد مروان شربل أطل قبل أيام لينضمّ الى قافلة المرددين متوقعاً “حصول اغتيالات سياسية محدودة”، متحدثاً عن نوعين من الاغتيالات “أولهما يستخدم كقنابل دفاعية تعطي صوتاً وشظايا وتقتل، وثانيهما كقنابل هجومية تعطي صوتاً ولا تقتل”. الوزير السابق شفافٌ في ما يقول و”يلي بقلبو على لسانو”، لكن ما قاله أخاف اللبنانيين المرتعبين أصلاً من كل شيء. فهل قال ما قاله نتيجة حدسٍ في داخله أم خلاصة معلوماتٍ وصلت إليه بالتواتر؟ يجيب بسؤال: “هل من يعيش في هذه المرحلة يمكنه استبعاد هذه المستجدات؟”. سؤالٌ وجيه في مرحلة دقيقة مفتوحة على جدليات كثيرة، ولكن هل يكفي أن نعيش ما نعيشه لنخاف من اغتيالات أم يكفي أن نخاف من فوضى وأحداث أمنية، يرتكبها “جياع” ولا تتأتى من مضمري شرور إرهابية؟ يجيب: “تأتينا هكذا افكار حين نعيش في ظروف مثل التي نعيشها في لبنان حيث الاقتصاد تعتير والمجتمع تعتير والسياسة تعتير ولا حكومة. ومن يريد القيام بعمليات إرهابية أو اغتيالات فالظروف الواقعية متاحة أمامه والأرض خصبة”.
هل نفهم من ذلك أن التحذيرات فيها من التحليل أكثر مما فيها من معلومات؟ يجيب: “لا أستبعد حراكاً إسرائيلياً في هذا الاتجاه كوننا نواجه الكثير من المشاكل وهناك ترسيم للحدود وهي”تركض” في هذا الاتجاه لمصلحتها، لأنه إذا لم يصر الى هذا الترسيم فلن تستطيع إسرائيل إستخراج الغاز والبترول، وهي قد تستخدم خلافاتنا وضعفنا في هذا الاتجاه، فتقوم بعملية اغتيال شخصية معينة لها وزنها من أجل خلق فتنة داخلية، لذا قامت الأجهزة الأمنية في تنبيه أغلب السياسيين بوجوب أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر والتنبيه، الى امكان حدوث اغتيال لسياسي من درجة أولى او حتى ثانية”. هل هذا التنبيه تمّ إعلامياً؟ يجيب شربل: “لا، جرى الاتصال مباشرة بكثير من السياسيين والطلب منهم بالحرف “الإهتمام بأنفسهم”، على أن تشدد الأجهزة الأمنية مراقبتهم وطلبت منهم التنسيق مع الأجهزة الأمنية عند ملاحظة أي تحرك”. من اتصل بالسياسيين؟ يجيب: “الجهاز الذي يملك المعلومات هو من يتصل، على أن تنسق الأجهزة كلها مع بعضها البعض أسبوعياً في شأن ما تجمعه من معلومات وهذا ما يريح الأجهزة. وأي خلل يحصل في التنسيق تعمد الأجهزة على معالجته فوراً لإرساء الأمن”.
كلام مروان شربل يجعلنا نطرح السؤال التالي: تُرى ماذا يعني مفهوم الأمن؟
الأمن، في المفهوم العام، معناه تراكم في الإحساس النفسي والإدراكي بأنه لا يوجد في البلد ما يهدد العرض والمال. وهو ثقة وطمأنينة وسلام وراحة ورفاهية. ونحن، كما تعلمون، نفتقر إليها كلِها. وبالتالي، كل من يطل ليعترض على الأصوات المنذرة والقول “أن الأمن مستتب”، يعاني من قصر نظر ليس الآن فقط بل على الدوام والكلام الأصح هو من يقول إننا في “عين العاصفة”. فهناك، بحسب جنرال متقاعد، انكشاف أمني مستمر بسبب غياب الدولة الحازمة المستمر. وثمة أحداث لها ارتباط غير محلي، موعز بها من الخارج. ولبنان خامة طيعة أمام كل التطورات الأمنية والسلبية إذ لا توجد سلطة موحدة متمثلة بالدولة اللبنانية. هناك سلطات عدة قادرة على تهديد الأمن في هذه اللحظة وفي كل لحظة. ثمة أفرقاء فلسطينيون لهم قواعد على طول الحدود. وكل حادث أمني لا بُدّ أن يعطى بعداً إقليمياً.
هل هذا يعني ضرورة أن نزيد “الثقل” على اللبنانيين وإعلامهم بأن البلد مفتوح على أحداث أمنية خطيرة؟ يجيب مروان شربل: “تحاول الأجهزة من خلال تحذيرها التنسيق مع المواطنين وفق قاعدة ان كل مواطن خفير لأن الاغتيال الذي قد يطاول زعيماً ما قد يحصد معه ضحايا من المواطنين. على اللبنانيين أن يدركوا أننا في ظروف أمنية خطيرة تضاهي خطورة الأمن الاقتصادي والسياسي”. ويستطرد شربل بالقول: “الكلام عن شهر خطير مجرد هراء فالوضع في الإجمال خطير ولا يمكن حصره بشهر أو بشهر ونصف. تحديد الوقت بمثابة تكهن على قاعدة “بصّارة براجة”، فكل بلد يمر بما نمر به يكون في خطر كبير ونحن عرضة لهذا الخطر”.
هل هناك من اتصل من الأجهزة الأمنية بوزير الداخلية السابق مثلاً ونبّهه، مع كل من نبّههم، أنه أيضاً في خطر؟ يجيب: “أنا ما في حدا قاريني! لكني عمدتُ الى تنبيه أولادي بعدم التواجد في تجمعات وضرورة الابتعاد عنها لأننا لسنا، لا أنا ولا هم، مستهدفون لكننا قد نذهب “بالمغليطة”.
نعود الى الجنرال المتقاعد (الذي فضّل عدم ذكر اسمه لأن أي معلومات في الموضوع هي أمنية) لسؤاله: هل الأمن مستتب على الرغم من التحذيرات الهاطلة من كل حدب وصوب؟ يجيب: “يفترض أن يكون الأمن استباقياً مستنداً الى المعلومات الواردة من الخارج والتي تتوافر لدى الأجهزة جراء التحقيقات التي تقوم بها مع الموقوفين”، ويستطرد بالقول: “في كل مرة تنبّه الأجهزة الى هكذا معلومات يحصل شيء ما. وهذه المعلومات تُنقل بحذافيرها الى القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء. كل هذه المعلومات تصب عند هاتين الجهتين”. يضيف: “هذه المعلومات يفترض ألّا تُعرض على الجمهور لكنها تتسرب عبر الاعلام”. وهل تسربها يفيد في الحيلولة دون حدوثها؟ “أمنياً، تعميم المعلومة يجعل من سيقوم بالعملية يراجع نفسه ويعد الى عشرة، لأن الأجهزة تقول له من خلال طرح الموضوع في العلن أنها كشفته وأصبح معروفاً. لكن، أحياناً قد تفضل الأجهزة عدم التعميم والعمل “على السكت” للحيلولة دون نجاح ما يُضمر. هناك طرحان في الموضوع ولكلِّ طرح مساوئه وحسناته للعامة. وهذان الرأيان نراهما في كل شيء حتى في أسلوب القتال، هناك المدرسة الروسية والمدرسة الأميركية ولكل منهما نهجها وأسلوبها”. المعلومات قد تتسرب عبر الإعلام وقد يفشي بها سياسيون وأجهزة. مجلس الدفاع الأعلى حذر، كما ليلى عبد اللطيف، من احتمال حصول أحداث وإشكالات تهز الوضع الأمني. فهل رمى بما لديه، كمن يرمي الطابة، الى الجمهور؟ وماذا يمكن أن يفعل الجمهور في ظل الكلام عن تكنولوجيات حديثة جداً تستخدم في الاغتيالات كما حدث مع اغتيال العالم الإيراني؟ يجيب مروان شربل: “يستطيع المواطن أن يلعب دوراً كبيراً هنا بأن يكون مخبراً للأجهزة الأمنية والتبليغ عن أي سيارة أو شخص يشتبه به أو بها”. هل يفترض بهذه الحالة إعادة تفعيل المكتب الثاني؟ يجيب شربل: “مخابرات الجيش في كل مكان”.
نطمئن أو نخاف؟
فلنقصد المخيمات الفلسطينية التي يقال إنها بؤرة إرهاب وعجينة طيعة في كل تدبير تنوي جهة ما تدبير اغتيال وأعمال إرهابية. مدير مركز تطوير الدراسات الفلسطينية هشام الدبسي لا يرى بكل المقولات التي تصدر عن اغتيالات وأعمال إرهابية “أي جديد”، ويشرح: “هناك من يستخدم هذه العناوين “كفزاعة” لتخويف السنة من الشيعة والشيعة من السنة والمسيحيين من الفلسطينيين. ثمة عقلية تحاول أن تتبنى العنف والاغتيال السياسي والفوضى لجرّ لبنان الى الهاوية في سبيل مصالح ايديولوجية”، ويستطرد: “نحن اشتغلنا طويلاً على تعزيز مقولة أن الفلسطينيين تحت سيادة القانون ولا نريد استخدامنا في الصراعات الداخلية. في كل حال لا ننفي وجود فلسطينيين مرتهنين لعواصم غير رام الله وهناك من يريد استخدامهم مجدداً. الفلسطينيون مثلهم مثل كل الآخرين ضحية أجهزة كبيرة”.
يرفض الدبسي مناقشة الفرضية الأمنية بمعزل عن اللحظة السياسية “فالأمن ليس قصة تقنية. هناك في المخيمات تطرف؟ صحيح، لكن هناك من يستخدم هذا التطرف من أجل أهداف سياسية”. هل نفهم من كل هذا أن الفلسطينيين كما اللبنانيين يخشون من أعمال إرهابية وأحداث أمنية “وراء الباب”؟ يجيب: “نحن يتملكنا الفزع أكثر من اللبنانيين. الفلسطينيون يخشون أن يُستخدموا مجدداً كما استُخدموا وخُوّنوا في أحداث نهر البارد، ومن إقحامهم في “معمعة” جديدة. ونحن خائفون من فلتان كل آليات الضبط في منطقة فيها كثير من مناخات الحرب. مصلحتنا العميقة منع نشوء حرب من خلال استخدام العنف المنظم وغير المنظم ندفع نحن ثمنها”.
“الله يستر” من مشهدية آتية زاحفة. هذا هو لسان الباحث الفلسطيني هشام الدبسي. ولسان حاله لسان حال اللبنانيين. وما هو ثابت اليوم واحد وهو أن البلاد سائبة ورائحة الدم تفوح والأحداث تنزل مثل رذاذ المطر الأول، منذرة بفلتان هائل في القيَم والأفكار والتصرفات والسلاح والتهديد والإغتيالات. “الله يستر”.