كتب حبيب معلوف في صحيفة “الأخبار”:
فتحت الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان الباب واسعاً أمام تغييرات طرأت – وستطرأ حتماً – على نمط الحياة الاستهلاكية، بما يفرض إعادة تحديد الحاجات الأساسية والضرورية، من بينها الملبس. فصناعة الألبسة التي خضعت طويلاً لصرْعات الموضة وعالم الأزياء، باتت من أخطر الصناعات الملوّثة والمستنزفة للاقتصاد (العالمي والوطني والأسري) والمناخ. يصعب في بلد كلبنان معرفة حجم استيراد الألبسة الجديدة أو المستعملة بسبب الغش في الجمارك والتهرب الضريبي. إلا أن المؤكد أن صرعات الموضة فعلت فعلها في استنزاف الاقتصاد الوطني بالعملات الصعبة، وزادت من حجم النفايات التي باتت العنوان الأبرز في أزمات هذا البلد.
بعد الثورة الصناعية، ولاسيما في صناعة الألبسة، شهد الإنتاج طفرة فاقت الطلب بكثير. «أفضل» الطرق التي ابتُدعت لتسويق الإنتاج الذي يفوق حاجة المستهلكين، تمثّلت بخفض النوعية، وإدخال تغييرات طفيفة على التصاميم، واختراع آلية عالمية للتسويق تقوم على عروضات احتفالية دورية، شبيهة بالطقوس الدينية، لخلق حاجات جديدة وتسويق ما هو أكثر من الحاجات الحقيقية للفرد أو الأسرة. هذه السياسة التي سُمّيت بـ«الموضة» وتمثّلت في «طقوس» عروض الأزياء، كانت لها آثار مدمّرة على الاقتصاد والبيئة والمناخ العالمي.
يمكن تعريف ظاهرة «الموضة» بتلك اللحظة التي نبتاع فيها السلعة ونتجاوزها سريعاً لتصبح في خانة المخلّفات أو النفايات. ففي اللحظة التي نعود فيها إلى البيت ونشاهد إعلاناً لسلعة جديدة، يصبح ما نشتريه «خارج الموضة»! وظيفة الموضة والإعلان عنها أن توهمنا بأن كل ما قبلها أصبح عتيقاً وبالياً يفترض التخلّص منه حتى لو كان لا يزال جديداً، وأن تخلق لدينا – في الوقت نفسه – حاجات جديدة وشعوراً بالحاجة الزائفة التي لا يمكن إشباعها إلا بمزيد من الشراء. والمعلن الذكي هو من يجعل المجتمع الاستهلاكي شريكاً في ثقافة الموضة. إلا أن انعكاسات ذلك كله على الاقتصاد والبيئة، لم تكن لتُحتسب في زمن الغرق في الاستهلاك. فهل يمكن أن تُحتسب بشكل أفضل في زمن الأزمات؟
بحسب تقديرات الأمم المتحدة، تضخّ صناعة الموضة ملياراً ونصف مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، أي ما يعادل حوالى 10% من انبعاثات غازات الدفيئة في العالم. وهي تتسبّب بهدر 20% من المياه على مستوى العالم مع استهلاك صناعة الأزياء أكثر من 79 مليار متر مكعب من المياه سنوياً. وينتهي المطاف بـ85% من الأقمشة بالحرق أو في مكبّات النفايات. إذ تنتج هذه الصناعة أكثر من 92 مليون طن من النفايات سنوياً، وتعد مصدراً مرتفعاً جداً للتلوّث الكيميائي. فاستخدام الأصباغ في هذه الصناعة يترك كمية كبيرة من النفايات الصناعية السائلة مع المياه، ما يتسبب في تلويث التربة والمياه السطحية والجوفية. وكلما تشدّدت الدول الصناعية في وضع شروط قاسية على هذه الصناعات لضبط التلوث أو لإعادة التصنيع أو لحماية العمال وإعطائهم ضمانات صحية واجتماعية… هرب المصنّعون من البلدان المتشددة بيئياً إلى تلك النامية والفقيرة بهدف استغلال مواردها الأولية واليد العاملة الرخيصة فيها. ورغم أن البلدان المتقدمة تستهلك إلى حدّ كبير المنتجات النهائية إلا أن البلدان النامية أكثر عرضة للآثار البيئية السلبية الناجمة عن هذه الصناعة، لأن غالبية عمليات الإنتاج تجري على أراضيها.
المنافسة الشديدة بين المنتجين والمصنّعين والمسوّقين أوجدت استحالة لتجنب الآثار السلبية لهذه الصناعة من دون أن ينتهي عصر الأزياء الرخيصة والسريعة.
فمن أجل تلبية حاجات السوق وإشباع الرغبات اللامحدودة التي صنعتها الإعلانات وعالم الأزياء للملابس الجديدة، يُنتج سنوياً أكثر من 100 مليار قطعة ثياب، معظمها من مصادر خام. فيما تُحرق أو تُرسل إلى مطامر النّفايات سنوياً 73% من الألياف المستخدمة في صناعة الأقمشة والملبوسات الجاهزة بما يعادل 53 مليون طن. ناهيك بأثر استخراج المواد الأولية لهذه الصناعة. فعندما نتحدث عن ملبوسات قطنية، هل نعرف ما الذي تحتاج إليه زراعة القطن من مياه وأسمدة ومبيدات كيميائية؟ علماً أن القطن نبات متعطش للماء، ويُعتقد أن زراعته كانت من الأسباب الرئيسية لجفاف بحر آرال في آسيا الوسطى، الذي كان يُعدّ رابع أكبر بحر في العالم. فيما تعدّ صناعة الجلود بين أبرز أسباب الحرائق التي اجتاحت غابات الأمازون العام الماضي. أضف إلى ذلك الملبوسات المشتقة من مواد نفطية، والتي تتسبب أثناء تصنيعها بالكثير من التلوث، وتتفكّك منها، أثناء غسلها، جزيئات مسؤولة عن التسبب بكثير من المشاكل الصحية، ولا سيما عندما تختلط بالنظام الغذائي. إذ أن غسل الملابس المنتجة من أقمشة صناعية يُولّد أطناناً من الألياف الدقيقة الملوثة التي تُرمى سنوياً في التربة والأنهار والبحار والمحيطات.
تنشر وسائل الإعلام حول العالم كثيراً من «الابتكارات» حول طرق إعادة تدوير الملابس والمنسوجات باعتبارها من ضمن الحلول المطروحة. لكن أصعب التحديات التي تواجه هذه القضية يكمن في مواجهة «أحزاب» شركات الإعلانات المساهمة في صناعة الرأي العام وأذواقه. ولن يكون معيار النجاح في ابتكار طرق إعادة الاستخدام أو إعادة التصنيع، الفولكلورية في معظمها، بل في تغيير المعتقدات وسلوك المستهلكين، وفهم الموضة كمنتج وظيفي أكثر منه ترفيهياً. أما التحدي الثاني القابل لأن يحمل صفة المنقذ فهو في النجاح بأن يصبح سعر السلعة متضمّناً لقيمتها الحقيقية، مع خلق الاستعداد لدى المستهلك لدفع السعر الحقيقي للسلعة، أي السعر الذي تظهر فيه كلفة المواد الأولية وطرق التصنيع وحماية البيئة وعمر المنتج ومصيره بعد الاستخدام.
لذلك، ليس المطلوب دائماً الدخول في دوامة التصنيع وإعادة التصنيع، بقدر ما هو المطلوب العودة إلى الصناعات المتينة والمعمّرة التي «تضاين» لفترات أطول، بعيداً عن متطلبات الموضة الزائفة. وللإجابة على سؤال: ما الذي يمكننا القيام به على صعيد فردي للحد من هذه الظاهرة؟ فإن الجواب هو أن استخدام المواد القابلة للتدوير أو شراء الألبسة المستعملة من البالات لم يعد كافياً. إنما الأهم هو اقتناء السلع التي تحمل قيمةً مدة طويلة ومنحها القيمة الأعلى والأفضلية على تلك الجديدة.
7500 ليتر من المياه لكل «جينز»
تُعد صرعات الموضة مسؤولة عن إصدار أكثر من 10% من انبعاثات الكربون، أي أكثر من تلك التي تتسبّب بها كل الرّحلات الجويّة وحركة الملاحة البحرية حول العالم مجتمعةً. وتتطلّب صناعة سروال «جينز» واحد، على سبيل المثال، 7500 ليتر من المياه تقريباً، أيّ ما يُعادل متوسط كمية المياه التي يشربها الإنسان على مدى سبع سنوات. مع ذلك، سرعان ما نبدل في الملابس أو لا نلبسها لأكثر من عام واحد! أما من يمتنع عن الظّهور بين الناس بالزيّ نفسه كل يوم، فقد يتسبب بإرسال قطعة ملابس إلى مطامر النّفايات أسبوعياً!
بيئة التصنيع
أثناء تصنيع المنسوجات وتسعيرها، يفترض أن تؤخذ في الاعتبار العوامل البيئية التالية: كيفية التعامل مع المواد الخطرة ولاسيما الأصباغ ومثبتات الألوان ومواد التبييض والكيمياويات المحافظة على المنسوجات والمستخدمة في مكافحة العثة، وإدارة المياه المستعملة، إضافة إلى ضبط الانبعاثات الهوائية واستهلاك الطاقة وكيفية معالجة النفايات الصلبة والسائلة، وكيفية تأمين شروط الصحة العامة والمهنية لسلامة العاملين ولا سيما أثناء التشغيل والحماية من مخاطر متعددة مثل الكيمياوية والمخاطر البدنية من الحرارة والضوضاء والإشعاعات المؤينة وغير المؤينة، واحترام معايير استخدام الكيميائيات المذكورة في هذه الصناعة لحماية المستهلك من الحساسيات التي تسببها ومن المركبات المسرطنة.