كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
قطعت الردود المباشرة وغير المباشرة المتبادلة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري الطريق على توقع تأليف وشيك للحكومة. كلاهما يتمسّك بالسلاح الدستوري بين يديه لتبرير تصلّبه، وفرض الحكومة التي يريدها.
ما رمت اليه الردود المباشرة وغير المباشرة البارحة، الافصاح عن مشكلة جديدة لم تعد في الصيغ المتداولة لتأليف الحكومة، بل في تعذر التعايش جنباً الى جنب بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري حتى نهاية الولاية. من دون توقيع عون لن يصبح الحريري رئيساً للحكومة، ومن دون اعتذار الحريري او تراجعه عن شروطه سيمضي الرئيس ما تبقى من ولايته في فراغ حكومي غير مسبوق ومكلف للغاية. من شأن التوتر المفاجىء بينهما امس ايصاد الابواب دونما اي اجتماع قريب يحمل الرقم 13. انتهى لقاؤهما الاخير الى ان القى كل منهما في وجه الآخر لائحة بتصوّره للحكومة الجديدة: معايير عون في مقابل مسودة الحريري، على ان يصغي كل منهما في الاجتماع التالي الى اجوبة الآخر. في ضوء تراشق البارحة افصحا سلفاً عن اجوبتهما، ما يجعلهما في غنى عن اي اجتماع تال.
مع ان المادة 53 من الدستور تحدد بوضوح نطاق الصلاحيات المعطاة الى رئيس الجمهورية والرئيس المكلف كي يؤلفا حكومة جديدة، بيد ان النزاع الناشب بينهما وضع المادة تلك في مأزق دستوري حقيقي. في ظل اصرار كل منهما على شروطه المعطوفة على عناد شخصي كأنه يغامر بورقة عمره، لا حل بلا اي مرجعية دستورية قادرة على التوصل اليه. انتهى دور مجلس النواب ما ان سمت غالبيته مرشحها لترؤس الحكومة. ابان الحقبة السورية كان في وسع دمشق فرض تأليف الحكومة على رئيس الجمهورية والرئيس المكلف معاً، او فرضه على احدهما تبعاً لإرادتها ومصالحها وحصتها خصوصاً. الدور الذي لم يسع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الاضطلاع به، وإن معنوياً، ما بين زيارتيه الاولى والثانية في آب الفائت، ثم قبل زيارته الثالثة الاسبوع المقبل.
يستمد رئيس الجمهورية قوة صلاحيته من انه آخر مَن يوقّع مرسوم تأليف الحكومة، فلا يصدر من دونه ومن غير تقييده بمهلة توقيعه واصداره. بدوره الرئيس المكلف يعزو تشبثه بالتكليف – ما دام لا آلية لمجلس النواب وهو صاحب التفويض لانتزاعه منه – الى ان لا مهلة تلزمه الاعتذار او تفرضه عليه.
بذلك يدور المأزق الدستوري في فلك بضعة معطيات منها:
1 – تقيم مشكلة التأليف الآن بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف دونما اي دور للكتل النيابية التي غالباً ما تشتبك مع الثاني بسبب نزاعات على الحصص والحقائب والتمثيل. في الظاهر تبدو الكتل كأنها تنأى بنفسها عن المواجهة القائمة بين عون والحريري، فيما الواقع انها تصطف وراء كل منهما. ذلك ما تعبّر عنه مواقف بعضها، إما المجارية لهذا او لذاك. واقع الامر انها تقع في قلب المشكلة، خصوصاً بالنسبة الى الكتل الكبرى الرئيسية المعنية بإدارة انتظام السلطة بين ايديها، والحريري احداها.
2 – وحده الصمت الغامض لحزب الله واكتفاؤه بالدعوة الى استعجال تأليف الحكومة، يطرح تساؤلاً عن موقفه الفعلي: يستعجلها حقاً ببراءة أم ينتظر حدثاً يفترض ان يسبقها ويأتي من الخارج. ليس خافياً ان الحزب يريد الحريري رئيساً للحكومة، فيما يتبنّى وجهة نظر رئيس الجمهورية من التأليف برمتها، والمقصود بذلك التشاور مع الكتل النيابية توطئة لحكومة تأخذ في الاعتبار واقع هذه، واوزانها وعدم تجاهل اي منها، او استبعادها. اهم ما في غموض موقف حزب الله ليس وقوفه الى جانب رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، كل لأسباب مختلفة، بل لكون صمته عاصياً على التفسير والفهم والتبرير تحت وطأة السباق مع الانهيار.
3 – يقارب كل من عون والحريري التأليف على انه هدف في ذاته، رغم معرفتهما انهما محاصران بالانهيار الحتمي ليس للاقتصاد والعملة الوطنية فحسب بل للامن والدولة والنظام برمته. كلاهما يريد حكومته هو التي لم يحصل عليها يوماً. في السنتين الاخيرتين في عهده، وهما في الغالب الاكثر نحولاً وضعفاً وهزالاً اقتداء بأسلافه، لا يزال رئيس الجمهورية يسأل عن اولى حكوماته كما لو ان الاخيرة ستكون اقواها واصلبها واعندها، مع ان ماضي الرؤساء علّمهم ان آخر حكوماتهم هي التي تُفرض عليهم لا العكس. ليس الحريري احسن حالاً. لم يصل يوماً الى السرايا الا بتسوية أُرغم على شروطها مع خصومه وكبّلته، وأفضت – خلافاً لاسلافه هو الآخر – الى اطاحته مرة بعد اخرى كما عامي 2011 و2019. لا يزال ثمة مَن يقنع الحريري من المحيطين به، ان عليه ان يصدّق ان رئيس مجلس الوزراء يحكم بصلاحياته الدستورية هو لا بتوازن القوى من حوله، وان الحكومة التي يوقّع مرسوم تأليفها هو ابوها الفعلي لا الاب الذي يتبناها. كلاهما، عون والحريري، يريد الآن الوصول الى حكومته هو في التوقيت اليائس والبائس على انقاض ما تبقى في البلاد.
4 – لم يعد تأليف الحكومة اسير المبادرة الفرنسية التي تبخرت او اوشكت. الزيارة الثالثة للرئيس الفرنسي حاصلة في معزل عنها تماماً، وهو ما لحظه برنامجها المعدّ في باريس. على غرار ما فعل سلفاه نيكولا ساركوزي في كانون الثاني 2009 وفرنسوا هولاند في نيسان 2016، يود ماكرون تفقد كتيبة بلاده في القوة الدولية في الجنوب معايداً اياها، من ثم يبيت في قصر الصنوبر وفي الغداة يجتمع برئيس الجمهورية. لا لقاءات بأي من المسؤولين الآخرين او الكتل، كزيارتيه السابقتين، ما عنى انه ادار ظهره لمبادرته هو بالذات، وفصل ما بين دوافع حضوره الى بيروت تبعاً لما عبّر عنه في زيارتيه الاوليين وهو انه يريد انقاذ اللبنانيين رغماً عنهم، وما بين الزيارة الثالثة الموجهة الى جنود بلاده. بفقدانه الظهير الخارجي، اضحى تأليف الحكومة بين ايدي اللاعبين المحليين الذين تصحّ فيهم عبارة ان «الديموقراطية كالدواء لا يُترك بين ايدي الاطفال».
5 – باختفاء المبادرة الفرنسية، لم يعد سوى الحريري وحده ينادي بحكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، الى الحد الذي يحمله على اختيار وزيرين لحزب الله (ذُكر ان احدهما امرأة) لم يسمهما الحزب. كذلك الامر مع وزراء رئيس الجمهورية وحركة امل. اما الوزراء السنّة فيعرفهم وحده. لعل اسوأ ما في هذه المقاربة، إظهار نفسه كأنه وحده المعني بتأليف حكومة يقتضي ان يُسلّم رئيس الجمهورية له بها ويوقّع مرسومها، فيما توقيع الرئيس يجعله الشريك الدستوري الفعلي.
كلاهما يوقّعان مرسوم التأليف من غير ان يكون التوقيع شكلياً لأي منهما بل جوهري في الصلاحية، فيما مرسوم تسمية رئيس جديد لمجلس الوزراء يوقّعه رئيس الجمهورية منفرداً. في ذلك دلالة واضحة على ان التوقيع المنفرد لرئيس الجمهورية هو الذي ينشئ الطبيعة الدستورية لكيان رئيس مجلس الوزراء، وليس مجرد رسو توافق الغالبية النيابية على اسم الرئيس المكلف الذي لا يُعتد به كياناً مستقلاً منفصلاً عن مهمة التأليف لاحقاً. في ذلك تكمن اهمية تزامن اصدار المراسيم الثلاثة على التوالي في توقيت واحد: اولها قبول استقالة الحكومة، ثانيها تسمية رئيس مجلس الوزراء، ثالثها تأليف الحكومة. اثنان منها يوقعهما رئيس الجمهورية وحده، فيما الثالث يوقعه معه رئيس مجلس الوزراء.