كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:
من أبرز ما أحدثه ادعاء المحقق العدلي في انفجار المرفأ فادي صوان ضد رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب والوزراء الثلاثة السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، انه أعاد مسألة استقلالية القضاء الى الواجهة واظهر حجم تأثير الطوائف على هذا السلك، حتى تراصف الجميع خلف المِلل وبدا القضاء ابن بيئة شديدة المحافظة على الخطوط الحمر. فالمراكز القضائية الاساسية محسوبة بدقة على مقاس حجم الطوائف، ومن خلفها ممثلوها السياسيون في السلطة، والا لما كانت تتأخر كل سنة التشكيلات القضائية، وكيف تكون اوضاع القضاء صحية وأحكامه حتى الاعدام منها كانت تصدر على قاعدة 6 و6 مكرر.
على لسان الشيخ نصر الدين الغريب ورد اكثر تفسير مطابق للواقع حيث قال مبرراً اعتراضه على فتح ملف صندوق المهجرين: “لما أصدر المحقق العدلي مذكرة للتحقيق مع الرئيس حسان دياب بفعل انفجار المرفأ، ذهب الرئيس سعد الحريري إلى السراي بعد أن حرّكته الحساسية الطائفية، وأعلن أيضاً الرئيس تمام سلام أن رئاسة الحكومة ليست مكسر عصا لأحد. وعندما أعلنت المداورة في الوزارات، ذهب أحدهم لتكريسها للطائفة وهذا أيضاً خط أحمر. وعندما كثرت الخطوط الحمر لم يسعنا إلا أن نقول: لا تقتربوا من الدعاوى على وزارة المهجرين، فهذه أيضاً خط أحمر”.
وفي خضم هذه الاجواء، يبدو القضاء الأكثر عرضة للتجاذبات، فهو ينوء تحت مسؤولية فشل السلطات السياسية المتعاقبة منذ ما قبل الطائف والى ما بعد هذا الاتفاق الذي ارسى حكم الطوائف كما اوقف رحى الحرب الاهلية. لقد وحّد ادعاء صوان الطوائف على ذواتها وارسى الحدود بينها فجعلها تغوص في تبادل الملفات وتبادل التهم وغدت حرب التغيير مستعرة وكأنه ملف مقابل ملف، والقضاء سيدفع الثمن من السياسيين انفسهم ومن بعض القضاة الذين يشهرون مواقف تبدو سياسية اكثر منها قضائية.
اليوم كل ما يحكى عن استقلالية القضاء، ومهما كانت النيات صادقة، تبقى الاستقلالية مجرد رغبات لا اكثر ولا اقل طالما النظام السياسي في عمقه طائفي، ولا يمكن ان تنتج عن نظام طائفي سلطة قضائية متجردة عن الطائفية، وهذا كلام يصح على معظم مؤسسات الدولة كي لا نقول كلها.
وفي ظل النظام الطائفي، لا يمكن انتاج سلطة قضائية علمانية وغير طائفية، وحتى وإن وصلنا الى استقلالية تامة للقضاء. بمعنى ان مجلس القضاء الاعلى ومن دون العودة الى وزيرة العدل او الى اي سلطة اخرى لا يمكن لتشكيلاته ان تخرج باستقلالية تامة لأن الطائفية في الوجدان كما في المجتمع ستبقى تفرض نفسها، بمعنى ان القاضي الماروني في مجلس القضاء الاعلى بوعيه او بلاوعيه وعندما يتم الكلام عن القضاة الموارنة سيعتبر نفسه معنياً بصورة طائفية والامر نفسه ينسحب على القضاة من كل الطوائف.
وطالما انه لا يمكن في ظل نظام طائفي انتاج قضاء مستقل، فلا يمكن ان نعول على قدرة القضاء في ان يحاكم الطبقة السياسية وكأنه مفصول عنها. ولذا ليس غريباً أن تتعطل منذ اتفاق الطائف سلطة القضاء الاستقلالية بما للكلمة من معنى. لكن تعتبر مصادر سياسية معنية بملف محاربة الفساد ان “السنوات الثلاثين الماضية اتت بأكبر عمليات عفو عام بدأت مع العفو عن الميليشيات ثم شهدنا عفواً عاماً عن سجناء الضنية، واليوم هناك مطالبة سنية شيعية بقانون للعفو العام عن مساجين بتهم مختلفة واعتراض مسيحي تجلى في توحيد موقف القوات مع التيار الوطني رغم الخلاف السياسي بينهما، نتج عنه تجميد قانون العفو”.
وكذلك فعل المفتي عبد اللطيف دريان في اعتبار الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة خطاً احمر، وكذلك تم التعاطي مع حسن قريطم الذي لولا انفجار المرفأ لما كان ادخل الى السجن. ولذا فالسؤال هنا هل يمكن اصلاح النظام القضائي بمعزل عن النظام السياسي الطائفي؟ هذا من رابع المستحيلات، تقول المصادر، مضيفة: “الحالمون بالاصلاح القضائي واهمون لذا سيكون اسرع الحلول طمس الملفات وحماية المتهمين، ما سينتج عنه توتر للأجواء، فيصبح القضاء مهمشاً ومستضعفاً”، وإزاء هذا الواقع ليس مستغرباً ان تتعالى الاصوات المطالبة بتحقيق دولي لتكون تأكيداً ان الطبقة السياسية في لبنان لا تريد سوى القضاء المدجن المطواع. وبهذا المعنى فإن البلد امام معضلة قضائية كبرى جسّد صوان بأخطائه وجرأته النموذج الذي يكمن من خلاله مشهد السلطة القضائية في لبنان”.
غداً او الذي يليه قد يذهب صوان بعيداً في ادعاءاته على خلفية قضية المرفأ لوجود من ينصحه بذلك، ولو ان الخيار المرجح هو التنحي بعد ان يكون فضح الطبقة السياسية وفضح معها واقع القضاء وعقم المعالجة لان الطائفية ما بلغت قطاعاً الا وأفسدته.