كتبت رلى موفّق في “اللواء”:
ما كان متوقعاً أن تُغيِّـرَ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان من حالة المراوحة التي تُصيب تأليف الحكومة. كانت الزيارة ستُشكّل بعض الحَـرَج للقوى السياسية، وإلغاؤها بفعل إصابة الرجل بوباء كورونا ستجنبهم قدراً من هذا الحَـرَج. بات متوقعاً ترحيل الموضوع برمّته إلى السنة الجديدة، ولاسيما أن البلاد على مسافة أيام من الدخول في عطلة الأعياد.
في الأصل، لا شيء يشي بأن عُقدَ التأليف إلى حل قريب. سيعمل الجميع في الداخل على تمرير الوقت حتى انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب في العشرين من كانون الثاني المقبل. فأي دعسة ناقصة قد يكون ثمنها باهظاً على حلفاء واشنطن قبل خصومها. الجميع يُعوّل على مساحة أكبر من المناورة بعد تسلّم جو بايدن، انطلاقاً من اقتناع بأن الدور الفرنسي قد يتعزّز مع التوجّه الذي يُبديه الرئيس الأميركي المنتخب للانفتاح مجدداً على الأوروبيين والتعاون سوياً في غالبية الملفات.
ولكن الوقت لا يصبُّ إلا في مصلحة الانهيار المفتوح على احتمالات الفوضى. هذا واقع لا يُخفى على الممسكين بالقرار. قد يظنون أنهم قادرون على ضبط الأمور بقبضة أمنية، والتخويف والترهيب، إنما هذه ليست وصفة مضمونة النتائج في لبنان، ولا يمكن الرهان عليها كثيراً ولا طويلاً.
فملامح تحضير الأرضية لحقبة من تضييق الخناق على الأصوات المعارضة تقوى يوماً بعد يوم. وستزداد الأساليب وتتنوّع. وكأن هناك تناسقاً وتنسيقاً في الخطوات لتتلاقى، عند خط النهاية، على كمِّ الأفواه وبثِّ الرعب وقمع الحرية. الأسئلة مشروعة عمّا إذا كانت صدفة أن تبدأ حملة تهويل على منظمات المجتمع المدني واتهامها بالتعامل تارة مع الأميركيين وطوراً مع البريطانيين بهدف إضعاف «المقاومة»،بالتوازي مع رفع «حزب الله» دعاوى بالتدرّج على سياسيين معارضين للهيمنة الإيرانية على لبنان، من باب اتهام «حزب الله» بمسؤوليته عن انفجار مرفأ بيروت.
كانت بداية الدعاوى مع المنسِّق العام لقوى «14 آذار» فارس سعيد، الذي كان من القلّة القليلة التي اعتبرت أن التسوية السياسية التي جاءت بالعماد ميشال عون إلى سدّة الرئاسة هي بمنزلة تسليم لبنان باليد إلى إيران. آنذاك كان كمن يُغردُ خارج السرب وحيداً. اليوم باتت هذه مقولة يكرّرها الكثيرون. يُزعجهم سعيد فيما يقوم به من خلق أطرٍ نخبوية مسيحية – إسلامية منحازة إلى قيام الدولة على حساب الدويلة، وإلى التمسّك بالشرعية اللبنانية المتمثلة بالدستور والطائف، وبالشرعية العربية من خلال تأكيد الانتماء الطبيعي إلى الحضن العربي، وبالشرعية الدولية عبر الانحياز إلى تطبيق القرارات الدولية، على حساب تعزيز منطق القطع والتصادم مع تلك الشرعيات الثلاث. يُدرك الخصوم أنه يوم تلاقى اللبنانيون خارج مربّعاتهم الطائفية، ويوم توحّدوا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أَنجزوا في لحظة إقليمية ودولية خروجاً للجيش السوري الذي كان حُلماً بعيد المنال.
وبالأمس وسّـعَ «حزب الله» دائرته لتطال الوزير السابق أشرف ريفي، بعدما كانت الدعاوى تناولت موقع “القوات اللبنانية” في رسالة لرئيس حزب «القوات» سمير جعجع، وطالت أيضاً بهاء الحريري الذي ظهر على الساحة حديثاً بخطاب مناهض للمنظومة القائمة، مصوباً بعضاً من سهامه إلى «حزب الله». اللواء ريفي مُزعجٌ بلهجته السياسية المرتفعة ضد «حزب الله»، وضد الهيمنة الإيرانية على البلاد،ويطالب بسيادة الدولة وإسقاط الدويلة.
يحصلُ ذلك، فيما توقيف الناشطين يزدادُ على خلفية كتابات لهم على شبكة التواصل الاجتماعي. غير أن المقلقَ هو حكم المحكمة العسكرية على الناشطة كيندا الخطيب بتهمة التواصل مع العدو. كيندا الخطيب لم تثبت عليها تهمة التعامل مع العدو أو تجنيدها مِن قِبله. تهمتها أنها تواصلت مع شخص على مواقع التواصل تبيّن لها أنه إسرائيلي، ورغم أنها أبلغت القوى الأمنية بالحادثة من قبل، إلا أنه جرى توقيفها وإدانتها. كثيرة هي الشكوك التي تشوب التحقيق والحكم، ذلك أن تهمة التعامل مع إسرائيل هي التهمة التي تُكبّل المدافعين عن الضحية كي لا يُتهموا هُم بالخيانة، لكن تلك التهمة تُشكّل جزءاً من عدّة شغل كمّ الأفواه والترهيب.
هذا مسار سبق أن عاشه اللبنانيون في حقبة الوصاية السورية. آنذاك كان انتقاد النظام السوري ممنوعاً ومكلفاً إن حصل. وحين بدأت الأصوات ضد الوصاية السورية تعلو، كانت بداية النهاية لهذه الوصاية. ليس من قبيل التوهم، أن ارتفاع الأصوات المطالبة بإسقاط الهيمنة الإيرانية، مُقلق لـ «حزب الله». كان أن قال يوماً الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بأن «حزب الله» يُريد منه أن يتوقف عن انتقاد إيران، وأنه سيفعل. عبَّـرَ يومها جنبلاط بطريقته عن أسباب حملة “الحزب” عليه. منذ التسوية، خفتت أصوات القوى السياسية في تناولها “محور إيران”، ولا تزال خافتة إلى حد كبير.
يمكن ردّ السكوت إلى تحالف السلاح والفساد الذي يُغذي بعضه بعضاً، وإلى الاختلال الحاصل في موازين القوى على الساحة الداخلية. إنما هناك مخاوف فعلية من أن تكون البلاد مُقبلة على تصفية حسابات بأدوات قضائية وأمنية، وعملية إرهاب وترهيب مُبكرة لحالات الاعتراض التي لا تزال خجولة قياساً بما كان يُفترض أن تكون عليه تلك الأصوات لولا أنها سلّمت واستسلمت لهيمنة “حزب الله”، ولولا أنها دُجِّنت!