كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
سلك القضاء في الأسابيع الأخيرة مسارات مليئة بالتعقيدات واختلط فيها حابل السياسة بنابل التحقيقات، وطفت على السطح أحاديث الغرف السوداء بقيادة النائب جبران باسيل وتأثيرها على الاتهامات الصادرة عن المحقق العدلي فادي صوان الذي أثار عاصفة سياسية – دستورية باتهامه رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والوزراء السابقين: علي حسن خليل، غازي زعيتر ويوسف فنيانوس.
كان هذا المسار القضائي الأول، أما المسار الثاني، فتمثّل في ذهاب «حزب الله» نحو استخدام القضاء لتكبيل أشرس معارضيه بدعاوى تستهدفهم، بذريعة اتهامهم له بالتورط أو بالمسؤولية عن جريمة تفجير مرفأ بيروت.
وفي خضمّ هذه العواصف السياسية وغرق الناس في الكوارث اليومية، كان القضاء العسكري ينقضّ على الموقوفين بتهم الإرهاب، أو من يسمَّون اصطلاحاً بالإسلاميين، ويصدر أحكاماً قاسية، كثير منها يقع في شبهة الموقف المسبق الناتج عن توجهات السلطة ضدّ هذه الفئة من اللبنانيين، الذين تخلى عنهم القريب واستفرد بهم الخصم اللدود.
في المسار الأول، بدا واضحاً أن القاضي صوان خطا خطوات خلافية من الناحية الدستورية، لجهة خضوع الرؤساء والوزراء والنواب للتحقيق أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء المنبثق عن مجلس النواب، وهذا ما دفع هيئة مكتب المجلس إلى الردّ بمطالعة هجومية وضعت القاضي صوان في دائرة التشكيك والارتياب، لتنتهي هذه الجولة بتعليق التحقيق في انفجار مرفأ بيروت لعشرة أيام بعد طلب بتغيير المحقق العدلي.
الأرجح أن هذا التعليق جاء بانتظار ما ستسفر عنه المساعي السياسية لإعادة إحياء الصفقة الرئاسية وإتمام المصالحة المتوقعة بين النائب جبران باسيل والرئيس سعد الحريري بعد أن دخلت بكركي على خط الوساطة، لأنّ هناك اعتقاداً بأنّ توجيه الاتهام لحسان دياب ثم مسارعة باسيل إلى تبرئته سياسياً، كان موجهاً للحريري الذي فهم الرسالة وقصد بكركي، والأرجح أن يقدم التنازلات المطلوبة لباسيل، ليسلك التحقيق مساراً أقلّ صدامية، وتنتهي المسألة باتحاد أهل السلطة وتجاوز خلافاتهم لتوليد حكومة الأغلبية المسيطرة.
المسار القضائي الثاني، شهد تحرك «حزب الله» لرفع قضايا ضد من اتهموه بالمسؤولية عن تفجير المرفأ، وقد بدأ تلك الخطوات بالادعاء على الدكتور فارس سعيد وموقع القوات اللبنانية، وأخيراً على الوزير السابق أشرف ريفي، في خطوة أراد منها الحدّ من توسع الكلام عن مسؤوليته في الكارثة التي ضربت العاصمة وأوقعت 209 ضحايا وآلاف الجرحى وتدمير ثلث العاصمة، وهو كلام أدرك الحزب أنّه ترسّخ في وجدان أهل بيروت خصوصاً واللبنانيين عموماً.
اللافت للانتباه أنّ «حزب الله» الذي ليس لديه علم وخبر، بل تعمل مؤسساته باسم «حزب المستضعفين»، بمعنى أنّ التسمية التي يعتمدها في السياسة والإعلام، هي غير ما لدى الدولة، لجأ إلى القضاء في سابقة هي الأولى من نوعها، ولا شك بأنه في موقف حرج، فهو لا يستطيع إقناع أحد بأنه لا يعلم شيئاً عن المرفأ ولا عن العنبر 12، ولا عن الحاويات الـ600 المجهولة الباقية بعد التفجير، ولا عن الذي منع الدخول إلى ذلك العنبر وحظر تركيب الكاميرات فيه.. وبالتالي يمكن القول إنه بهذه الدعاوى يرفع التهمة عن نفسه، لأنّ سكوته كان سيعتبر قبولاً بالاتهام.
القناعة الراسخة لدى الرأي العام هي أنّ هذه الدعاوى هي لاستخدام القضاء لتكميم الأفواه الجريئة التي تعارض «حزب الله»، لكن ماذا سيفعل القضاء، لو أنّ أحد اللبنانيين توجه إليه وأقام دعوى اتهم فيها الحزب بالمسؤولية عن اغتيال الشهيد رفيق الحريري بالاستناد إلى إدانة المحكمة الدولية للقيادي في الحزب سليم عياش بتلك الجريمة البشعة؟
المسار الثالث للقضاء، كان تسارع وتيرة الأحكام القاسية والجائرة بحق الموقوفين الإسلاميين، والتي شملت متهمين في ملف عبرا والفنان فضل شاكر، ومن الواضح هنا أنّ تلك الأحكام جاءت في ظل توجه السلطة المتشدّد ضد هذه الفئة التي تخلى عنها رؤساء الحكومات السابقون، ولم يعد المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى يأتي على ذكر مظالمها وبات يتجاهل قضيتهم.
ومن عجائب القضاء أن يحكم على كندا الخطيب بالسجن ثلاث سنوات لأنها لم تضع حظراً على رقمٍ إسرائيلي، بينما أصدرت أحكاماً متساهلة بحق العملاء، أمثال فايز كرم وسواه، مما يُسهّل الاستسلام لما يتداوله الناس، ويقوله بعض الوزراء، ويدركه الجميع من حجم التدخل في أعمال هذا السلك، بدءًا من تعطيل التشكيلات القضائية وليس انتهاءً بالغرف السوداء المتحكمة وبالمستشارين «أباطرة البيانات والفتاوى» الفرمانية.
لا شيء يشي بأنّ القضاء بخير، ولا مؤشرات تُنبئ باستقامة قوس العدالة، ومع اقتراب مصالحة أركان السلطة وإحياء الصفقة الرئاسية، سنرى الرؤساء والوزراء يدخلون ويخرجون من التحقيق وكأنهم الملائكة بأجنحتهم يرفرفون، وسيحكم قضاؤها العالي على بعض الضباط والموظفين، لتُدفن قضية كان يفترض أن تطيح بالمافيا الحاكمة من رأس الهرم حتى أخمص القدم.