كتب جورج بشير في “الجمهورية”:
كانت صدفة أن تنشر الصحف اللبنانية والفرنسية ووسائل الإعلام، صورة للرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي، وهو يتوجّه بكل إحترام بملء إرادته إلى دائرة التّحقيق الفرنسية في باريس، للإدلاء بإفادته ومعلوماته إلى المحقق العدلي، في شأن إتهامات موجّهة إليه، بتقاضي رشوة أثناء ولايته رئيسًا للجمهورية الفرنسية.
قبل الرئيس الفرنسي ساركوزي، استمع المحققون العدليون اللبنانيون والدوليون، إلى رئيس الجمهورية اللبنانية السابق العماد إميل لحود، وهو في سدّة الرئاسة أكثر من مرة، إلى إفادته ومعلوماته في جريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
إذا جاز أن نذكر شيئًا عن أداء المسؤولين في الدولة العدو، التي نتفاوض معها رسميًّا اليوم إسرائيل، في شأن ترسيم الحدود البحرية، نذكر كيف أنّ رئيس وزرائها الأسبق إيهود أولمرت وبعده رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي نتانياهو، توجّها كل بدوره إلى دائرة التحقيق في الشرطة، للردّ على أسئلة قضائية، وبعدها مَثَلَ الأول أمام المحكمة وأُدين وسُجن، فيما الثاني لا يزال في غرفة الإنتظار.
لم يتحرّك كاردينال باريس ولا مجلس أساقفة فرنسا، إحتجاجًا على دعوة الرئيس ساركوزي رئيس الجمهورية، ولا حتّى الحزب الحاكم، لأنّ العدل أساس الملك، واحترام القضاء واجب بديهي لا نقاش فيه، وإنارة التحقيق العدلي من أي مسؤول، من شأنه أن يحقق العدالة، وواجب على أي مسؤول فرنسي، لا بل في معظم بلدان العالم التي تحترم ذاتها. وهذا المبدأ لا يجب أن يتنكّر له أو يقصّر نحوه أي مسؤول حالي أو سابق أو لاحق مهما كانت رتبته.
قد يكون قاضي التحقيق الرئيس فادي صوان، الذي يجمع القضاة والمحامون على حرفيّته، وهو من عهد إليه القضاء والحكومة مهمة التحقيق في جريمة الإنفجار المروع الذي وقع في مرفأ بيروت، ودمّر العاصمة اللبنانية، أخطأ من الناحية البروتوكولية، حين ادّعى على رئيس مجلس الوزراء وطلب إليه الإدلاء بمعلوماته حول الأسباب التي دفعت به قبل حصول الإنفجار في المرفأ بعشرة أيام، لإلغاء زيارته الموقع، للتأكّد من المعلومات الأمنية التي وصلته عن إمكانية حصول إنفجار، أو خطر محدق بالمرفأ وضواحيه، من جراء تخزين 7500 طن من نيترات الأمونيوم في أحد عنابره. إذ، لو قام الرئيس حسّان دياب بهذه الزيارة التّفقدية، كان يمكن أن يكون قد لمس الخطر المحدق بالعاصمة، وأمر بإزالة السبب فورًا، ولكانت نجت العاصمة من هذه الكارثة المروعة وتجاوز لبنان تداعياتها.
الرئيس صوان سعى ولا يزال يسعى للوصول إلى الحقيقة التي يطالبه بها اللبنانيون وآلاف الجرحى وأسر الضحايا المفجوعين بالنتائج المدمّرة لهذه الجريمة الفظيعة، وآلاف العائلات اللبنانية المهجّرة، والذين حوّلهم الإنفجار إلى لاجئين في وطنهم. وأجوبة الرئيس دياب من دون شك من شأنها أن تنير التحقيق وتخدم العدالة، بصرف النظر عن الوسيلة، ما دام الهدف وطنياً إنسانياً سامياً، يساعد التحقيق ويكشف الحقيقة ويحقق العدالة.
قد يكون المحقق الرئيس فادي صوان بدعوته هذه للرئيس دياب، قد حقّق له ما عجزت ولاية حكومته عن تحقيقه له، ألا وهو رفع الفيتو الذي وُضع على ترؤسه الحكومة منذ اليوم الأول، واتّهمه واضعوه بأنّه «لا يمثل طائفته ولا جماعته، إنما هو مختار من حزب الله».
فالرئيس دياب مدين للرئيس فادي صوان، ليس برفع الفيتو عنه فحسب، بل بقبول عضويته في نادي رؤساء الحكومات السابقين أيضًا، مجلس الحكم المستحدث في لبنان.
ربما كان على الرئيس صوان أن يزور رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب في السرايا من دون مقدّمات، ويستمع إلى أجوبته حول الأسباب التي دفعته لإلغاء زيارته للمرفأ قبل عشرة أيام من الإنفجار، ومن تمنّى عليه وأقنعه في عدم القيام بهذه الزيارة، التي كان يمكن أن تكون إنقاذية لو تمّت ؟! ومن قال بأنّ رئيس الجمهورية مثلًا قد يمتنع عن الشهادة لو طلب إليه المحقق ذلك؟!
لا شكّ، أنّ التحقيق في جريمة مرفأ بيروت ساعٍ لمعرفة الأسباب التي دفعت وزير الأشغال السابق غازي زعيتر، للسّعي الى تعيين نجله المحامي في مكتب المحامي سمير البارودي الوكيل في دعوى النيترات، والأسباب التي دفعت وزراء الأشغال المتعاقبين، إلى عدم اتخاذ القرار برفع هذه البضاعة المتفجرة وإزالتها من المرفأ والعنبر رقم 12، رغم أخذهم العلم كما غيرهم من المسؤولين الإداريين والأمنيين، بمدى مخاطر تخزينها في المرفأ، من مدير عام الجمارك السابق شفيق مرعي، لأكثر من ثلاث مرات، بموجب رسائل خطية موثقة، ولمعرفة من نصح قاضي التحقيق يومها في الملف، بعدم ترتب أية خطورة من جراء تخزينها؟؟؟
اللبنانيون لاحظوا أنّ امتناع رئيس الحكومة حسان دياب عن الإدلاء بمعلوماته، عرقلة لمسيرة العدالة غير مقصودة، وهذه فضلًا عن الخطورة في إعلان وزراء متعاقبين للأشغال العامة، مسؤولين مباشرين مع نظيرهم وزير المال السابق، عن مقابلة المحقق والجواب عن أسئلته، وكأننا أمام خط أحمر جديد، أشبه بالخط الأحمر المرسوم أمام استجواب الرئيس فؤاد السنيورة والرئيس نجيب ميقاتي أمام القضاء.
بعد ذلك، عن أي قضاء، لا بل عن أية دولة يتحدثون، وعن أي تحقيق في الجريمة التي هزّت لبنان ولا تزال تُحدث الزلازل، وعن أية عدالة، إلّا إذا كان الضالعون في هذه الجريمة المختبئون خلف الخطوط الحمر من دون ورع، يتطلعون إلى تحميل ضحايا الإنفجار وسكان الأشرفية والشعب اللبناني، مسؤولية التقصير والإهمال الذي وصل إلى حدّ التواطؤ ؟!لا شك في أنّ كل مسؤول لبناني في أي منصب كان، اطلع على مضمون كتاب شفيق مرعي – الإنذار، الذي تضمن عبارة تحذير من الإبقاء على نيترات الأمونيوم في المرفأ، والإستمرار في تخزينها، لأنّ ذلك يشكّل خطرًا على المرفأ ومحيطه، ببيعها أو بإعادة تصديرها أو بالتخلّص منها فورًا قبل حلول الخطر. نعم، كل مسؤول قرأ هذه العبارة ولم يتوقف عندها يجب أن يُحاكم ويدلي بمعلوماته من دون إبطاء، خصوصًا ما يتعلق بجزء من هذه النيترات، التي يُقال بأنّه اختفى أو سُرق من العنبر رقم 12. وكل من يتباطأ في المثول أمام المحقق والإدلاء بمعلوماته، يُعدّ متواطئًا في الجريمة عن سابق تصور وتصميم.
من البديهي أن يخضع كل مسؤول للقانون ويساعد التحقيق والمحقق العدلي، إذ لا يكفي التذرع بالحصانات أمام هول هذه الكارثة التي حلّت بالوطن والشعب في آن، والويل لكل من يضع العصي في دواليب العدالة، خصوصًا في ملف إنفجار مرفأ بيروت، لأنّ الشعب لن يرحم أحدًا من المقصّرين والمتواطئين «الهاربين» من وجه العدالة، والكل سواسية. ولقد أحسن المدّعي العام الرئيس غسان عويدات بالتّنحي عن التحقيق في هذا الملف، بسبب وجود إسم نسيبه الوزير غازي زعيتر في ملف التحقيق.
قبل ان يلغي زيارته بسبب إصابته بكورونا، كان سيحلّ بعد يومين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مجددًا ضيفًا على لبنان. فكم من العار أن يأتي إلينا رئيس الدولة الكبرى، ليشهد مرة جديدة أحد فصول زوال لبنان، الذي أشار إليه وزير خارجيته، واللبنانيون في «التايتانيك» المشرف على الغرق حتى من دون موسيقى، فيما العدالة تترنّح على أيدي من يفترضون أنّهم حراسها وحماتها، فيما هدف التحقيق الوصول إلى كشف الحقيقة والمقصّرين والفاسدين، بدلًا من التّلطي تحت خيمة الطائفية والمحسوبية، وذلك حرصًا على عدم تسييس أو تطييف هذا التحقيق، كي لا يأخذ المتضررون الثأر بأيديهم، ولات ساعة مندمِ.