Site icon IMLebanon

أين أخطأت القيادات السنية؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

نجح العهد في جرّ الطائفة السنية مجتمعة إلى اشتباك صلاحيات دستورية لا أساس له، وكلّ الهدف منه أن يُعيد العهد تعزيز وضعه مسيحياً بعد التراجع الكبير في وضعيته المسيحية.

لم يكن من قبيل الصدفة أن يوسِّع رئيس الجمهورية مهام المجلس الأعلى للدفاع ليحلّ مكان الحكومة، ولا ان يتم الإيحاء بالوقوف خلف قرار القاضي فادي صوان باستدعاء الرئيس المستقيل حسان دياب، ولا بالرَدّ كذلك على تشكيلة الرئيس المكلّف سعد الحريري بتشكيلة أخرى، وهذا كله في أسبوع واحد، فيما كان باستطاعة الرئيس عون، مثلاً، أن يناقش الرئيس الحريري في تشكيلته ويرفضها لعدم مطابقتها لوحدة المعايير في التسمية والمداورة من دون الكلام عن تشكيلة أخرى أو غيره، ولكن التعمُّد كان مطلوباً من أجل إطلاق العنان لمواجهة صلاحيات بحاجة إليها.

فالعقل المدبِّر لهذه الخطوات كان يتوقّع انزلاق الطائفة السنية إلى رد فعل على فِعل العهد الذي يريد تحويل الاشتباك مع الرئيس المكلف، في الوقت الحكومي الضائع، إلى اشتباك طائفي يُسَجِّل من خلاله 3 أهداف أساسية:

الهدف الأول: الظهور بمظهر المدافع عن صلاحيات رئاسة الجمهورية وحقوق المسيحيين في مواجهة هجمة سنية من جهة، وثلاثية إسلامية من جهة أخرى تضمّ إلى الحريري الرئيس نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، لأنه من هذا الباب فقط يستطيع ان يرد جزءاً من شعبية مسيحية خسرها إبّان سنوات حكمه، وأن يحصد تعاطفاً مسيحياً.

الهدف الثاني: حَرف أنظار اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً عن الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي حلّت بهم في العهد الحالي بسبب السياسات التي اتّبَعها واعتمدها، وبالتالي حرفها باتجاه حرب صلاحيات وأزمة نظام ومحاولة استضعاف العهد ومحاصرته.

الهدف الثالث: تحويل مطلب العهد الحكومي من فئوي يتّصِل بالثلث المعطِّل والإمساك بمفاصل الحكومة التي قد تكون الأخيرة في عهده، إلى مطلب مسيحي يشكّل مظلة للعهد ويدعِّم موقفه ويعزّز حجته بانتزاع الحصة التي يريدها، خصوصاً انّ القاصي يعلم والداني أيضاً انّ أولوية العهد الحفاظ على مصادر قوته، لا قوة المسيحيين.

وقد نجح العهد في جَر، ليس فقط الحريري إلى المواجهة من باب الصلاحيات والمظلومية، إنما نادي رؤساء الحكومات ومعظم أركان الطائفة السنية، وهذا تحديداً ما أراده وقُدِّم إليه على طبق من ذهب، إذ بدلاً من محاصرته عن طريق تقديم مقاربة وطنية ودستورية وقانونية، تمّ استخدام السلاح نفسه الذي يستخدمه، هذا السلاح الذي يعطِّل أخصامه المسيحيين، ويمنحه فرصة إعادة تعزيز وضعه مسيحياً، فيما الأزمة القائمة لا علاقة لها بالصلاحيات، والهَدف من تصويرها على هذا النحو كان بُغية التعمية على المسببات الحقيقية لهذه الأزمة، والتي يمكن اختصارها باثنين:

المسبب الأول: دور «حزب الله» وسلاحه الذي وضع لبنان أمام خيارين: العزلة العربية والغربية في ظل قرار دولي حاسم برفض التعامل مع دولة قرارها ليس بيدها، والوصول إلى قناعة بأنّ مساعدتها تفيد الحزب أكثر ممّا تفيد الشعب اللبناني، أو إخراج الحزب من السلطة التنفيذية والفصل التام بين الدولة والحزب والدفع باتجاه إنهاء سلاحه.

فلا يمكن التعويل على أي مساعدة دولية ما لم تُباشر الدولة بورشة إصلاحات كفيلة بالحد من دور الحزب والمنظومة الداعمة له.

المسبب الثاني: فشل المنظومة الحاكمة في إدارة الدولة، فلو اعتمدت السياسات الإصلاحية المطلوبة في القطاعات الحيوية لكانت بالتأكيد رَحلّت الانهيار وفَرملته، وإنّ عدم استشرافها السقوط المدوي هو مؤشر إضافي إلى فشلها وحصر اهتمامها بمراكمة السلطة والنفوذ والمال، والانهيار الذي يصيب لبنان ليس فقط من طبيعة مالية، إنما يتعلق بالاهتراء الذي أصاب مؤسسات الدولة بسبب غياب منطق الدولة والدستور والقانون.

ويستحيل الخروج من هذه الأزمة قبل الاتفاق على دور «حزب الله» وسلاحه، والذي بات شرطاً دولياً، لمساعدة لبنان الذي لا يستطيع بالوقائع والتجربة ان يحافظ على استقراره وتوازنه واستمراريته من دون العمق العربي والغربي، كما يستحيل الخروج من الأزمة ما لم يُصَر إلى انتخابات نيابية تعيد إنتاج أكثرية جديدة تنتهج ممارسة مختلفة تماماً عن الممارسة المتّبعَة منذ العام 1990 إلى اليوم.

ويفترض ان تدرك الأكثرية السنية المعادلة التالية: بقدر ما يَقوى العهد يقوى «حزب الله»، وبقدر ما يضعف العهد يضعف الحزب، والمستفيد الأكبر من «مواجهة الصلاحيات» هو الحزب لـ3 أسباب أساسية:

السبب الأول: لأنه ينقل المواجهة من وطنية حول دوره وسلاحه، إلى طائفية حول الصلاحيات، فيرفع الضغط عن نفسه ويوجّه رسالة إلى الخارج، الذي يحاصِر لبنان بسبب سلاحه، مفادها انّ الصراع الحقيقي في لبنان من طبيعة طائفية لا وطنية ولا علاقة له في هذا الصراع، وكل تركيز على سلاحه هو في غير محله.

السبب الثاني: لأنه يُعيد الصراع إلى ما كان عليه في الجمهورية الأولى بين المسيحيين والسنّة وحول الموضوع نفسه المتعلق بنزاع الصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة، علماً انّ هذا النزاع لم يكن يوماً إلّا الشّكل الذي تَمَظهَر فيه باعتبار انّ الأزمة العميقة كانت دوماً في الخلاف على دور لبنان وحياده.

السبب الثالث: لأنه يعيد تعزيز وضعية حليفه داخل البيئة المسيحية بعد التراجع الذي أصابه بفِعل إيصال لبنان إلى دولة فاشلة، ويُخطئ من يتوَهّم انّ الحزب على استعداد لاستبدال حليفه العوني او لديه هذا الترف، حيث يبقى الحليف العوني الحليف الأول والثابت الذي يوفِّر له الأكثرية النيابية والغطاء المسيحي.

وقد جاءت العقوبات الأميركية على رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لتضعه في حضن «حزب الله» بشكل كامل، والحزب بحاجة لباسيل، ليس فقط لما يؤمّنه له من أكثرية وغطاء مسيحي، إنما أيضا لجهة دوره في اتجاهين:

الاتجاه الأول: مواجهة «القوات اللبنانية» التي تشكل الخصم الأبرز لـ»حزب الله» أيديولوجياً وتنظيمياً، والفريق الوحيد الذي ما زال قادراً على موازنتها مسيحيّاً هو «التيار الوطني الحر» الذي تقدمّت عليه مسيحياً، وأيّ انتخابات ستعيد ترتيب الصفوف المسيحية. ولذلك، فإن الحزب بحاجة لباسيل لمواجهة «القوات» ومنعها من التمدد والقبض على القرار الوطني المسيحي.

الاتجاه الثاني: مواجهة تيار «المستقبل» من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات، فرغبة الحزب بأن يكون الحريري رئيساً للحكومة لا تعني انه يرتاح لتيار وشخص قاعدته ضد الحزب وكذلك عمقه السعودي، ويتجنب الدخول في مواجهة معه منعاً للتوتر السني-الشيعي، وبالتالي يفضِّل ان يتولى هذه المهمة باسيل، فضلاً عن انه ينقل التوتر إلى مسيحي-سني.

وإذا كان ما حصل قد حصل، فالمطلوب تطويق هذا السجال، الذي تراجع أصلاً، وعدم العودة إليه في مناسبات ومحطات أخرى، لأنّ المستفيد الوحيد منه هو العهد و»حزب الله»، فيما حقيقة الصراع لا علاقة لها بالصلاحيات بين الرئاسات ولا بالجانب الطائفي، إنما كانت وما زالت بين مشروعين سياسيين، ولا يفترض بقيادات واعية وبيئة مُسَيّسة ان تَنجَرّ وتنزلق إلى مواجهة في غير مكانها وزمانها وتخدم المشروع السياسي الذي تتم مواجهته منذ العام 2005، فيما يشهد لبنان أكبر انهيار في تاريخه لكل قيَمه المضافة المالية والاقتصادية والتربوية ونمط عيش اللبنانيين الذين باتوا يعيشون من قلة الموت. وبالتالي، إنّ التحدي الأساس يكمن في كيفية إخراج لبنان واللبنانيين من مستنقع الفشل إلى مقوّمات الدولة الفعلية.