كتب جوزف هاشم في “الجمهورية”:
نتَناقلُ عن آبائنا قولاً كان في زمانهم رائجاً: «الحبسُ للرجال»…
هذا… إذا كان الرجال يرتكبون من الأفعال ما تعتـزُّ بـهِ الرجولة، كمثل الدفاع عن النفس، والدفاع عن الشرف.
ولأننا، لا نزال نطبِّـقُ في الأحكام قـوْلَ آبائنا المأثور لا أحكام الدستور، فالحكّام المرتكبون عندنا لا يدخلون السجون:
لأن الحبس للرجال…
ولأن الحبس لمن يرتكبون جرائم الشرف…
ولأن وراء كلِّ مرتكِبٍ طائفة…
ولأن الطائفة تصبح متَّهمةً مع الفاسد المتَّهم… ويصبح الدين محامياً يدافع عن الفاسدين…
ولأنّ الدولة عندنا هي دولة النوادي المذهبية: نادي رؤساء الحكومات، ونادي رئيس المجلس النيابي، ونادي الفروسية لرئاسة الجمهورية، ونادي أبي العلاء المعرّي القائل:
إنّما هذهِ المذاهبُ أسبابٌ لجذْبِ الدنيا إلى الرؤساءِ.
من ظريف ما قـرَأنا: «أنّ القراصنة الإنكليز على عهد الملكة أليزابيت تيودور، عندما راحوا ينهبون السفن الإسبانية وعلى متنها أموالٌ إقْتَرضَها الملك الإسباني فيليب من مصارف جنوى، سأَلت الملكة أليزابيت الأسقف «جوال Jewel» ما إذا كان لها الحق في الأموال الإسبانية المنهوبة فقال الأسقف ، إنَّ الـربّ بروتستانتي ويسرّهُ أنْ يـرى الملوك ينهبون ويغتنون(1)..»
إنها الصورة المطابقة لمملكتنا : نحن أيضاً عندنا لكلِّ ملكٍ ربّ، ولكلّ ربٍّ طائفة، ولكل طائفة أسقفٌ وشيخ، وربُّ الطائفة يسرُّه جداً أنْ ينهبَ ملوكُها ويغتَـنوا.
ولكنّ الملـوك الفاسدين بحسب ربِّ القرآن: «هُـمْ إذا دخلوا قريـة أفسدوها(2) … والسارقُ والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسَبا(3).»
وربُّ الإنجيل يقول في الفاسدين بلسان المسيح: «رؤساء الأمم يسودونهم فلا يكون هكذا فيكم(4) … ويـلٌ لكم لأنكم تأكلون بيوت الأرامل(5).»
ملوك الطوائف عندنا فوق القانون، يحكمون بموجب حـقٍّ إلهيٍ مزيّـف، يأكلون بيوت الأرامل ولا يشبعون.
أما الذين استشهدوا والذين افتقروا والذين تشرّدوا والذين تيتَّموا، والمرأة التي ترمَّلَتْ والدولة التي تدمَّرت والعاصمة التي تفجّرتْ، والأموال التي اختُلِستْ… كلّ هذه المصائب والبلايا هي من المقادير المكتوبة للمخلوقات، والقضاء والقدر، يتخطّى قـدرةَ الحكام والقضاء العدلي.
لعلّ، خطيئة المحقق العدلي أنّـه اعتمد الإستنسابية والإنتقائية العدلية والإختلال في المعايير، فلو أَنصفَ وعـدَلَ لكان اتّهمهم كلّهم جميعاً بلا استثناء، كلّ الذين حكموا متَّهمون وملطّخون بالجرم، وفداحةُ الجريمة تقلّ وتكبر بحسب منزلة المجرمين.
نعم… إنقاذُ الدولة يبدأ بالقضاء الذي بات في حاجةٍ ماسة إلى إنقاذ، وعلى كلّ قاضٍ أن يُصدر الأحكام بقلمٍ مـنْ «صوّان» ، ففي الميوعة استشراءٌ للفساد، ومقتلٌ للقضاء ومصرعٌ للبلاد.
وإلاّ فقد يصدق الشاعر إيليا أبو ماضي في قوله:
إنّ قاضي المستعبدين لَعبْـدٌ وقضاةٌ عـورٌ قضاةُ العور.
والعهد أيضاً بـات في حاجة ماسة إلى إنقاذِ بعضِ بعضِه، وقد فقَـدَ الوهج بالنهج، والجنرال الذي كانت: الخيل والليل والبيداء تعرفه، لم يبقَ في يـده – والولاية على مشارف النهاية – إلاّ بعضٌ من سيفٍ يشنُّ بـهِ حـربَ الإلغاء على الفاسدين… «ومَـنْ نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه… ومَـنْ وضع نفسه موضع التهمة فلا يلومَنَّ مَـنْ أساء الظـنّ(6)».
أنْ تُفتَحَ الملفاتُ وتساقَ رؤوس كبيرة إلى السجن خيـرٌ مِـنْ أن يُساق شعبٌ بكامله إلى الإعدام برصاصة الرحمة الأخيرة.
وإنّ الهروب من عقوبة الحبس يُصبح أشدَّ وأقسى عندما يكون الحبسُ للرجال.