توقف الرئيس المكلف سعد الحريري عن زيارة قصر بعبدا، وتصرف على أساس أنه فعل وأنجز ما عليه وأنجز المطلوب منه بتسليم الرئيس ميشال عون تشكيلته الحكومية، والكرة لم تعد في ملعبه وإنما أصبحت في ملعب رئيس الجمهورية الذي إما أن يرفضها بالكامل أو يوافق عليها معدلة. كانت هذه «الصدمة الأولى» التي أحدثها الحريري في مسار عملية التأليف، مع لجوئه الى أسلوب «الأمر الواقع»، ووضع عون أمام خيارات محددة وهامش ضيق، مع ما يعنيه ذلك من تعميق أزمة الثقة بينهما والمغامرة بما تبقى من إمكانات وظروف لتجديد العلاقة وعقد المساكنة للسنتين المتبقيتين من العهد. وهذه «الخطوة» من جانب الحريري لاقت استحسانا لدى جمهوره وأصدقائه لمجرد أنها ترفع المسؤولية عنه وترمي الكرة الى ملعب «العهد»، مع مراعاة مبادئ المبادرة الفرنسية، وإن تطلب الأمر خروجا على «قواعد اللعبة السياسية». ولكن خطوة طرح تشكيلة من طرف واحد أثارت قلقا واسعا من ان تؤدي الى مزيد من التعقيد والتأخير، لأن عون لن يسلم بهزيمة وانكسار من باب الحكومة.
بعد التشكيلة التي أرادها الحريري «صدمة إيجابية»، جاءت «الزيارات الصادمة» التي لها علاقة بملف الحكومة وتحسين الشروط التفاوضية… الزيارة التي لم يكن أحد يتوقعها كانت زيارة الحريري الى رئيس الحكومة تصريف الأعمال حسان دياب في السرايا الحكومي للتضامن معه بعد الادعاء عليه في قضية انفجار مرفأ بيروت وذودا عن موقع رئاسة الحكومة.
ولكن هذه الزيارة، التي أدت عمليا الى «رد الاعتبار» للرئيس دياب ورفع الحظر السياسي عنه والاعتراف المتأخر بعضويته في نادي رؤساء الحكومات، انطوت على أبعاد وأهداف سياسية. فالحريري سعى عبر هذه الزيارة الى استمالة دياب وإبعاده عن رئيس الجمهورية، وبالتالي الإمعان في محاصرة عون وتضييق الخناق عليه وقطع الطريق على مشروعه لتفعيل حكومة دياب وتوسيع نطاق تصريف الأعمال، وتعطيل ورقة ضغط أساسية في يده… وكان من الصعب اكتشاف المضمون الحكومي في زيارة الحريري الى السرايا، إذ إنها حصلت على وقع انتفاضة سنية عارمة شارك فيها بشكل أساسي رؤساء الحكومات حماية لموقع رئاسة الحكومة، وأيضا حماية لـ «دياب» ورسم خط أحمر حوله تحسبا لأي مفاجآت لاحقة في التحقيق، مع طرح التوسع في الاستدعاءات تشمل رؤساء حكومات ووزراء سابقين.
أما الزيارة الصادمة الثانية، فكانت الى بكركي التي زارها الحريري بعد انقطاع طويل. هذه الزيارة هدفت الى أمرين أساسيين:
٭ الأول هو وضع البطريرك الراعي في صورة التطورات الحكومية، بما في ذلك إطلاعه على التشكيلة الحكومية التي رفعها الى عون وشرح تفاصيلها وكفاءاتها وقدرتها على إجراء إصلاحات، ومدى ملاءمتها للمواصفات الفرنسية.
وفي الواقع، لم يكن الحريري ليتوجه الى بكركي لو لم يلمس أن هناك موقفا مسيحيا عاما لا يؤيد طريقته في تشكيل الحكومة، ويتعاطف مع رئيس الجمهورية. وأراد الحريري تغيير هذا الانطباع وإحداث اختراق مسيحي من باب بكركي.
٭ الثاني هو ترميم العلاقة مع البطريرك الراعي التي لا تصنف حتى الآن علاقة مستقرة، وعرفت في الآونة الأخيرة فتورا ونفورا في محطتين ومناسبتين على الأقل:
– عندما خرج الراعي من قصر بعبدا عشية زيارته الى الفاتيكان ليعلن موقفا منتقدا للطريقة التي يشكل بها الحريري الحكومة، محملا إياه مسؤولية التأخر الحاصل، ومتبنيا موقف عون المندرج تحت عنوان «وحدة المعايير»، وقد صاغ موقفه بلهجة دقيقة صارمة لم يعتد عليها الحريري وأزعجته.
– عندما أخذ البطريرك الراعي موقفا داعما لخطوة الادعاء التي اتخذها المحقق العدلي فادي صوان، ومنتقدا الحملة التي شنت ضده والاصطفاف والاستنفار السياسي الطائفي الذي حصل، بما يهدد بتقويض عملية التحقيق في هذه الجريمة وحرفه عن مساره. ومن هنا يفهم كلام الحريري (الذي أعد تصريحا مكتوبا بعناية) عن التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وتأكيده أن هناك إصرارا على معرفة الحقيقة الكاملة، ولا غطاء ولا تغطية على أحد، مشددا على ملاحقة المرتكبين ضمن الأطر القانونية والدستورية، وعلى أن الموقف من الادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يتسم بمعيار دستوري أولا وأخيرا بما يحصن التحقيق.
زيارة الى بكركي لا تكفي لإرساء علاقة متينة وراسخة بين الراعي والحريري الذي عليه أن يبذل المزيد من الوقت والجهد لتحسين وتحصين هذه العلاقة التي لا تقاس بالعلاقة التي كانت قائمة بين الرئيس رفيق الحريري والبطريرك نصرالله صفير.