كتب انطوان الأسمر في “اللواء”:
لم يكن صدفة ولا نزوة إمتشاق قوى سياسية الإدعاء الأخير الصادر عن المحقق العدلي في تفجير المرفأ القاضي فادي صوان، لتثير ما أثارته من عواصف غبارية، تارة بحجة الدفاع عن المقام والطائفة، وطورا بذريعة عدم إحترام القضاء الأصول الدستورية. وزاد العاصفة الغبارية حدة تعمّد تلك القوى دمج تداعيات القرار القضائي بالانسداد الحكومي والتحرك القضائي في مسائل الفساد، في ما بدا أنه محاولة لتوظيف الغبار بغية تبرير التعطيل الحكومي والتمادي به، والأهم الهروب من المحاسبة في ملفيّ تفجير المرفأ وهدر المال العام، وهي محاسبة يخشى كثيرون أن تأتي متدحرجة وألا تتوقف، كما في كل مرة، عند موظف صغير أو عند تقديم كبش فداء على مذبح السارقين الكبار. لكل ذلك، رُفع ستار الحماية المذهبية.
كان واضحا أن القوى المتضررة وجدت في الإدعاء القضائي ضالتها، فوظّفته لتبرير تعطّل المسار الحكومي، معطوفا على إتهام رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر بأنهما وراء قرار القاضي فادي صوان، في موازاة إتهام التيار بتشكيل غرفة عمليات هدفها فتح ملفات الفساد في وجه الخصوم، وهما الإتهامان اللذان سقطا بالمنطق والحجة. فلا الرئاسة والتيار تدخلا في المسار القضائي، لا بل إن الإثنين يملكان مروحة من الملاحظات على الأداء والمقاربة، وصولا الى قرار الإدعاء نفسه، ولا هما شكّلا أصلا غرفة عمليات أو غرفة سوداء وفقا للاتهامات المُساقة.
بداية هذا الأسبوع، بلغ الخصام الحكومي أوجَّه مع البيانات المتقابلة. إكتفى الرئيس المكلف سعد الحريري بإيداع رئاسة الجمهورية لائحته الوزارية، في حين أنه كان من المفترض أن يعود الى بعبدا بجواب واضح عن الإقتراح التكامل الذي سلمه إياه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والذي ضمّنه توزيعا عادلا ومتوازنا للحقائب على الطوائف والمذاهب على قاعدة الإختصاص، بالطبع من دون ذكر الأسماء.
وكان لافتا أن الحريري في حمأة الردود والردود المضادة الأخيرة (مع ان محيطه كرر مرارا في الآونة الأخيرة أنه حريص على ألا يتساجل مع عون وألا يقطع الخيط معه)، أغفل ذكر وعده بدرس إقتراح رئيس الجمهورية وتقديم جواب عنه، وتصرّف على انه رمى تشكيلته، واضعا الكرة في بعبدا. وهناك من يرى أنه أراد من ذلك أن يقدّم تشكيلة استباقا للزيارة الفرنسية الملغاة، وتفاديا للإحراج. من هذا المنطلق قاربت قوى سياسية عدة التشكيلة الاستباقية على أنها لرفع العتب من جهة، وللتخلّص من أسماء وردت فيها، وهو ما أدى فعليا الى إحتراق اللائحة بأكملها.
تشرّح مصادر ديبلوماسية تلك الوقائع في معرض تقويمها الانسداد الحكومي، أسبابا ومسببات، وفق الآتي:
1- ثمة إعتقاد بأن الرئيس المكلف لم يستطع أو ينجح بعد في تخطي الفيتو الأميركي – الخليجي على تمثيل حزب الله في حكومته العتيدة. وهذا الفيتو واضح، وهو ما تبلغّه المسؤولون اللبنانيون على أثر الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركية مايكل بومبيو الى باريس. حينها، إلتقت السفيرة الأميركية جيمي ماكورت بالسفير رامي عدوان، لتعلمه أن لا حكومة في لبنان في المدى المنظور، لأن أي حكومة يتمثل الحزب فيها لن تقوم لها قيامة، وهذا قرار أميركي حاسم.
2- وثمة اعتقاد موازٍ بأن الرئيس المكلف يتهيّب مسألة رفع الدعم عن السلع الأساسية، وربما هو يفضّل أن تبتلي الحكومة المستقيلة بهذا القرار الذي سيكون له الوقع الكبير شعبيا وسياسيا، فيما الحكومة هي الأخرى تسعى ما استطاعت الى إبعاد الكأس المرة ولكي لا تُسجّل عليها فعلةٌ ستكون انعكاساتها ومخاطرها ضخمة.
وترى المصادر الديبلوماسية أن هذين الإعتقادين يتكاملان في الخلاصة. إذ إن كليهما يرميان، أولا وآخرا، الى تبرير التباطؤ الحكومي والمناورات القائمة لغاية واحدة وهي تأجيل التشكيل قدر الإمكان، ربما في إنتظار الإدارة الأميركية الجديدة، وفي الوقت نفسه تبرير هذا التأجيل وإسباغه قناعا داخليا، بحيث يُلام رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر لرفضهما التسليم بمشيئة الرئيس المكلف تسمية الوزراء الـ18 الذين من بينهم حزبيون، فيما الحريري على إصراره بأن صيغته غير حزبية، تلبي مندرجات المبادرة الفرنسية التي تتحدث عن حكومة مهمة لمرحلة انتقالية.
وتلفت المصادر الى أن باريس تدرك تماما موطن الخلل الحكومي، وهي سبق أن سعت الى معالجته، فحدّثت مبادرتها أكثر من مرة، وآخرها حين ثَبّتت المعايير الموحدة وخصوصا في تسمية الأحزاب ممثليها. ودفعت تحديدا بأن تسمي الأحزاب المسيحية ممثليها في حكومة المهمّة، وأن يكون لرئيس الجمهورية رأي في مجمل التشكيلة. فرئاسة الجمهورية لا تُعامل كصندوق بريد، تودع لديها التشكيلة مع إغفال حقها بتوجيه ملاحظات. والرئيس هو المؤتمن دستورا على وحدة الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه. وهذا الإئتمان تكريس لدوره المركزي في حفظ التوازنات الوطنية، وبأنه جزء لا يتجزأ من السلطة الإجرائية (الفصل الرابع في نص الدستور اللبناني)، لا كما يريده البعض أن يكون مجرّدا من أي صلاحية.