كتب علي شندب في “اللواء”:
هكذا يطيح كورونا بالخطط والبرامج والمواعيد، وايضا بالمعادلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فإصابة الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون التي شغلت الناس وما ترتب عليها من عزل وحجر صحي، والغاء زيارات واعادة جدولة المواعيد، مثال طازج على ذلك.
انها الاصابة التي لم يعرف على وجه الدقة بعد، مدى تحوّلها لطوق نجاة للطبقة السياسية اللبنانية من تقريعات ماكرون جراء اخفاقاتها المتناسلة في تشكيل حكومة مهمة إنقاذية. أو طوق نجاة يحفظ لماكرون بعض ماء وجهه الذي أهرق ذات «حفلة خيانة جماعية» تعرّض لها في بيروت، كما ويقيه تهشيما مضاعفا من نكوص قباطنة قصور التيتانيك اللبناني الذي يغرق دون اوركسترا، بحسب ناظر الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان.
كورونا ماكرون تزامنت مع «الارتياب المشروع» الذي عبّر عنه وزيرا المال والاشغال السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر، اللذين طالبا بكف يد المحقّق العدلي القاضي فادي صوان عن ملف التحقيق بانفجار مرفأ بيروت واستبداله.
وبهذا فقد دخل «الارتياب» تلك المفردة القانونية والنادرة الاستعمال في لبنان، بورصة التداول السياسي في سياق المواجهة المفتوحة، بين بعض الطبقة السياسية ممثلة بهيئة مكتب المجلس النيابي، والقضاء اللبناني ممثلا بالمحقق العدلي القاضي فادي صوّان، على خلفية ادعائه على ركني حركة أمل الوزيرين السابقين النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر، بالاضافة لركن تيار المرده وزير الاشغال السابق يوسف فنيانوس، فضلا عن حسّان دياب رئيس حكومة تصريف الأعمال.
وفيما رفض حسّان دياب، المستضعف من دوائر السلطة العليا لضعف حيثيته التمثيلية داخل الطائفة السنية، المثول أمام المحقّق العدلي كمدعى عليه بانفجار المرفأ مكتفيا بافادته الأولية. فقد سجّل حضور فنيانوس غير المتمتع بحصانة نيابية الى دائرة المحقق العدلي الذي أرجأ الاستماع اليه لموعد آخر، وذلك تزامنا مع تمنّع مثول الوزيرين السابقين والنائبين حسن خليل وزعيتر لتمتعهما بالحصانة النيابية في الجلسة الأولى. كما وتمنعهما عن الحضور في الجلسة الثانية لعدم تبلغهما أصولا وبشكل رسمي. وهو التمنّع المعزّز ببيان هيئة مكتب المجلس النيابي التي أعلنت عدم تبليغهم طلب المحقق العدلي بالمثول أمامه.
طلب استبدال المحقق العدلي استنادا لنظرية «الارتياب المشروع»، أوقع التحقيق وعمل المحقّق العدلي في ثلاجة الانتظار نحو عشرة أيام، تقرّر خلالها محكمة التمييز استبدال المحقق العدلي أو تثبيته في مهمته. وهو الأمر المرجح اعتماده خصوصا إذا ما قسنا على «السابقة» التي سبق وسجلها «مجلس القضاء الأعلى»، عبر تمسّكه بالتشكيلات القضائية التي أقرّها خلافا للتوجهات القضائية لرئيس الجمهورية ميشال عون الذي حبس تلك التشيكلات في خزائن القصر الجمهوري حتى اليوم.
وصحيح أن المواجهة بين القضاء ورئيس الجمهورية، منفصلة عنها مع المجلس النيابي، لكن الصحيح أيضا أن القضاء وجد نفسه في معركة متلازمة ومفروضة مع غالبية الطبقة السياسية، ما سيفتح المواجهة القانونية والقضائية والسياسية نحو محطات جديدة. خصوصا وأن مراجع قضائية وقانونية بارزة ترى في نظرية الارتياب هنا، خطوة التفافية على العدالة بهدف تعطيلها، سيّما وأن المحقق العدلي، الذي أشار للمرة الاولى في تاريخ لبنان على الرؤوس السياسية والأمنية والعسكرية والادارية الكبيرة المتسببة بالانفجار اهمالا او تقصيرا او فسادا، يحظى بدعم وتأييد شعبي متجاوز لأهالي ضحايا انفجار المرفأ أفصحت عنه الاعتصامات اليومية في الشوارع المحيطة بمكتبه في قصر العدل ومنزله في الأشرفية المتصدعة من انفجار المرفأ.
والى «خطوة الارتياب» التي اعتمدتها حركة أمل، فقد سجّل حزب الله «خطوة الادعاء» التي رفعها ضد بهاء الحريري وفارس سعيد وموقع القوات اللبنانية واخيرا أشرف ريفي، لأنهم وغيرهم ممّن سيدّعي عليهم الحزب تباعا، حمّلوا حزب الله المسؤولية عن الانفجار. وبهذا يكون حزب الله قد شكل بدوره السابقة غير المسبوقة في اللجوء الى القضاء ضد اتهامات ما بعد سياسية تطاله.
انها الاتهامات السياسية التي بلغت حدّا غير مسبوق ضد حزب الله مع اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات المتوالية بعده. ويومها التزم حزب الله الصمت القضائي، حيال من أشاروا اليه بأصابع الاتهام ومن ثم الإدانة المعزّزة بحكم المحكمة الدولية ضد القيادي في الحزب سليم عيّاش، وقد اكتفى حزب الله يومها، باستهدافهم ببعض الصليات السياسية والاعلامية فصنّفهم بين خصوم وأعداء.
وإذ نسوق وقائع سلوك حزب الله بعد اغتيال الحريري ورفاقه وغيرهم، وبعد انفجار المرفأ، فذلك للمقارنة الدالة على المعايير المتابينة التي يعتمدها حزب الله هنا وهناك. فممّا هو مؤكد أن اتهام المحقق العدلي لحلفاء الحزب بانفجار المرفأ، إنما هو اتهام للحزب أيضا.
فكما يعلم الجمع والجميع أن المحقق العدلي لن يعثر على أي وثيقة تدين حزب الله الذي لا يعتمد «المراسلات الخطية» مع الوزراء والوزارات والادارات والمؤسّسات العامة. بل يعتمد أسلوب «المكالمات الشفهية» التي تضمن لها معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» صيرورة التفوّق والسمو على الاجراءات الرسمية والقوانين المرعية وغير المرعية.
في هذا السياق ينبغي النظر الى مطالبة حزب الله للمحقق العدلي بالعودة عن قراراته واعتماد معايير موّحدة وغير استنسابية في التحقيق والادعاء، كما والنظر وبذات العين الى ادعاء الحزب على المذكورين أعلاه، وتهويله بالادعاء على غيرهم من الشخصيات السياسية والاعلامية.
وبعيدا عن الاشتباك القانوني القضائي وأصول التخاطب بين هيئة مكتب مجلس النوب والقضاء، والتباين حول فقه الحصانات النيابية والدستورية، تتبدّى نظرية «الارتياب والادعاء» كاستراتيجية يعتمدها الثنائي الشيعي في مقاربة ملف انفجار المرفأ الذي يبدو أن تداعيات كشف حقيقته وحقيقة وصول نيترات الأمونيوم وتخزينها، ومن ثم تهريب بعضها برا أو بحرا، ستكون مدوية أكثر من دوي الانفجار نفسه.
واذا ما صحّت نظرية «الارتياب المشروع» وقضت باستبدال المحقق العدلي، فهذه بدورها السابقة التي تسجل في خانة الشعب اللبناني، الذي أبدى ما هو أكثر من الارتياب بطبقة سياسية فاسدة متغوّلة، نهبت أموال اللبنانيين وسرقت مستقبلهم وصادرت أحلامهم، ما دفع جموع لبنانية واسعة خرجت في 17 تشرين وما بعده وأطلقت لحناجرها العنان مطالبة باسقاط رئيس الجمهورية ومجلس النواب.
لكن كورونا التي تسبّبت بحفظ ماء وجه ماكرون عبر الغاء زيارته الميلادية الى الجنوب وبيروت. هي نفسها الجائحة التي أطالت بعمر الطبقة السياسية المأزومة، جرّاء ضرورات الحجر السياسي واجراءات التعبئة العامة، والتي خفّفت من السياط الماكرونية المهينة التي تجلدها خلال كل زيارة.
وهي نفسها كورونا التي لن تتمكن من تقديم الوقت الكافي والضروري، لاطالة أمد منظومة الأمونيوم والفساد والمال والسلطة والسلاح التي أخذت عروشها تتهاوى من غضب الناس، وتهتز بعقوبات ماغنيتسكي على جبران باسيل بالفساد تارة، وبالمسؤولية عن انفجار مرفأ بيروت طورا. ما يشي بوضع لبنان على مفترق طرق تؤدي إما الى نفق في النفق، وربما الى الضوء في آخر النفق.