كتب جوني منير في “الجمهورية”:
لا جديد جدّياً في الموضوع الحكومي. لا يزال القرار الاقليمي الكبير، بعدم دنو اللحظة المطلوبة للسماح بفك أسر الولادة الحكومية، يختبئ خلف العِقَد الظاهرة والتي ترتكز على حسابات شخصية وذاتية ضيّقة.
لم يتغيّر تفكير رجال السلطة في لبنان، رغم المآسي الكثيرة التي حلّت، ورغم تبدّل وجوه واسماء وانتماءات الطبقة السياسية. الذهنية ذاتها استمرت، والاهداف دائماً ضيّقة وصغيرة.
لذلك، من المجدي عدم التلهي بالأعذار التافهة التي يطلقها اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، فهي ثرثرة غير مفيدة، والالتفات نحو الاهم، اي ناحية التطورات الاقليمية، لأنّها صاحبة التأثير الفعلي على مستقبل الأحداث في لبنان. ولا شك انّ المحور الاساس للرصد يتركّز حول مسار العلاقات الاميركية – الايرانية بعد استلام جو بايدن مقاليد السلطة في بلاده، ولكن مع عدم اهمال الاسابيع الاربعة المتبقية من ولاية دونالد ترامب، والتي قد تختزن المزيد من المفاجآت الخطيرة.
زار رئيس اركان الجيوش الاميركية الجنرال مارك ميلي المنطقة أخيراً، وكانت اسرائيل احدى محطاته المهمة، فهو سعى من خلال جولته الى طمأنة الدول الحليفة لبلاده، بأنّ قرار انسحاب الجيش الاميركي من المنطقة لا يعني ابداً التخلّي عن ضمان امن هذه الدول. وهذا ما سيجري ترجمته برفع مستوى التنسيق القائم بين الجيش الاميركي وجيوش هذه الدول، وانّ اعادة التموضع العسكري الاميركي هي من اجل منع ايران من تنفيذ عمليات تستهدف الجنود الاميركيين خلال الاسابيع القليلة المقبلة. لكن في اسرائيل فإنّ المباحثات اخذت طابعاً اوسع. فوفق اوساط ديبلوماسية مطلعة، فإنّ رئيس الحكومة الاسرائيلية استفاض في شرح الاوضاع الصعبة التي تمرّ بها ايران حالياً، واصفاً ايران بأنّها اضعف من اي وقت مضى بسبب العقوبات الاميركية التي انهكت اقتصادها ومجتمعها، اضافة الى التأثيرات الكبيرة لجائحة كورونا
ووفق ما نقلته هذه الاوساط الديبلوماسية عن نتنياهو، فإنّ طهران وبسبب ظروفها الصعبة لن ترغب في فتح نزاع عسكري قد يؤدي الى ضرب احتمالات اعادة فتح قنوات التواصل مع واشنطن.
لكن التقييم الاميركي ليس بهذا القدر من التفاؤل. صحيح انّ ايران تعيش ظروفاً صعبة ولكنها ليست قاتلة. فعلى سبيل المثال، فإنّ صادرات النفط الايراني سجّلت في الاشهر الماضية ازدياداً قُدّر بحوالى الثلاثة اضعاف، بسبب خلق قنوات جديدة للتهريب، خصوصاً الى الصين التي هي بحاجة للمزيد من كميات النفط، وفي الوقت نفسه تعمل على دعم ايران، لأنّها تدرك انّها تشكّل خط الدفاع الاخير عن الصين. فعند الانتهاء من الملف الايراني، فإنّ المحطة التالية ستكون التفرّغ الكامل لاحتواء ومحاصرة التمدّد الصيني.
في الواقع، فإنّ اغتيال قاسم سليماني كان بمثابة المفاجأة غير المحسوبة. كما انّ اغتيال محسن فخري زاده كان بمثابة مفاجأة جريئة. فكما لم يخطر في بال احد ان تنال واشنطن علناً من مهندس سياسة تصدير الثورة الاسلامية الايرانية، فإنّ احداً لم يكن يتصور ان تستطيع اسرائيل من تنفيذ عملية اغتيال بهذا الحجم وهذه الدقة في العمق الايراني.
لذلك، تحاذر طهران طالما انّ ترامب لا يزال يشغل البيت الابيض، وتتمسك بمبدأ القيادة بحذر.
ومنذ ايام احيت القيادة الايرانية ذكرى اغتيال قاسم سليماني. والقى مرشد الثورة السيد علي خامنئي كلمة تضمنت ما يشبه استراتيجية النظام للردّ على الاغتيال.
كان متوقعاً ان يستخدم خامنئي عبارات قاسية، رغم انّها لم تتضمن اي دعوة صريحة للتصعيد العسكري او الامني. هو تطرق الى صفعة القوة الناعمة كردّ مناسب في الوقت الحالي. بما معناه، انّ الظروف الحالية قد تفرض الرهان على الوقت، او ربما ما بات يُعرف باستراتيجية الصبر، التي لطالما اعتمدتها ايران. فهي تعتقد انّ عامل الوقت يلعب لمصلحتها. بدليل انّه حث المسؤولين على عدم تعليق آمالهم على اي تغيير حصل في واشنطن، وايضاً عدم الثقة بأي من اعداء ايران، قاصداً الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا والمانيا «التي تعاملت بمنتهى اللؤم والنفاق تجاه الأمة الايرانية».
بالتأكيد ستذهب ايران للتفاوض مع الدول الخمس زائداً واحداً، لكنها تريد قبل ذلك فسحة من الوقت لتحصيل اوراق تستطيع من خلالها الدفاع عن اي سعي لإدراج ملحق للاتفاق النووي. والدليل، انّ خامنئي أوصى بعدم اجراء مفاوضات مع الاميركيين في هذه المرحلة، ولكن من دون اقفال الباب بالكامل.
ذلك انّ هنالك من يقرأ التطورات التي استُجدت في الخليج بطريقة مختلفة لناحية، انّه صحيح بأنّ اسرائيل كسبت اوراقاً قوية من خلال التطبيع الذي حصل، لكن قد تكون ايران امام فرص جديدة لها، ورهانها على مدى تقبّل الشارع العربي لهذا الانفتاح الكامل، مع كيان نشأت اجيال على حقيقة اغتصابه لأرض عربية.
ففي بعض مراكز القرار الاميركي قناعة، بأنّ السلام الفلسطيني – الاسرائيلي لم يكن مفتاح السلام العربي مع اسرائيل. فيومها انتجت هذه الحقبة سلاماً بارداً مع مصر والاردن.
اما في المرحلة الحالية، فإنّ التطبيع يبدو اكثر دفئاً مع الامارات والبحرين والمغرب. وهو سلام يرتكز على المصالح الاقتصادية والعسكرية والمخاوف المشتركة من ايران.
لكن الأطماع الاسرائيلية لا حدود لها، لدرجة انّ البعض يعتقد انّها لم تبدأ بالظهور بعد. فاسرائيل لم تكتف بالمكاسب السياسية الهائلة التي حققتها من التطبيع، فعينها على الثروات والاموال العربية، بهدف توظيفها في الصناعة العسكرية الاسرائيلية. وتحت ذريعة تزايد القلق من قدرات ايران الصاروخية والطائرات من دون طيار، والتي تزود بها القوى المتحالفة معها، تركّز اسرائيل على وجود مصلحة مشتركة لهذه الدول لمواجهة ايران.
لذلك، تعمل على التركيز على الهجوم الذي استهدف ارامكو في ايلول 2019، وخصوصاً عدم مبادرة واشنطن من القيام بأي ردّ فعل، بذريعة تجنّب الانزلاق الى الحرب وايضاً في غياب وجود معاهدات دفاع مشتركة.
ويقول الاسرائيليون، انّ هنالك الكثير من الاموال في الخليج، والتي يمكن استثمارها في الصناعة العسكرية الاسرائيلية، ولكن مع الحرص على عدم إشراك الخليجيين في اسرار عسكرية حساسة، وحصر التعاون في بيع تكنولوجيا دفاعية مضادة للصواريخ. لذلك قد تكون ايران بحاجة الى فترة قصيرة من الزمن، تسمح باختبار مدى تقبّل كافة الشرائح الشعبية للامتحان الصادم الجديد.
وفي هذا الوقت، ستعمل على تجميع الاوراق لوضعها على طاولة المفاوضات عندما سيحين الوقت، والأرجح مطلع الصيف المقبل، وذلك بهدف حماية الاتفاق النووي من إدخال اي تعديلات او ملحقات عليه. ولبنان هو احدى هذه الساحات التي سيجري تجميع الاوراق منها. والفوضى هي ورقة اساسية، ولو انّها ستأتي كردّ فعل على سياسة الضغط. فإيران اثبتت قدرتها على إعادة لملمة الفوضى. وهي لذلك تتحضّر في العراق كما في لبنان، وسط الريبة مما يجري حياكته بهدوء وخلف الكواليس بين واشنطن وموسكو حول الساحة السورية. لكن العراق يستطيع تحمّل الفوضى، أما في لبنان فالمسألة في غاية الحساسية والدقة. ما قد يدفع الى فتح الابواب امام ضيف جديد في لبنان وهو مجلس الامن.