كتبت مريم مجدولين لحام في “نداء الوطن”:
لنعترف إذاً، أنّ “المعلومات المهمّة” عدوّ شرس، تصعب مجاراته في ظلّ وجود ميليشيات تجيد اصطياد المواطنين، ومع قضاء لم يصل إلى خواتيم أيّ قضية اغتيال، إلا اللّهم بعد “وفاق وطني”. وأمس، أُضيف اسم المصوّر جوزيف بجّاني، بما يملكه من معلومات، إلى لائحة من “تُلفلف” قضاياهم، وذلك بعدما قُتل في وضح النهار أمام محيط منزله ببلدة الكحّالة، البعيدة 13 كيلومترا ًشرقاً عن العاصمة بيروت، وبسلاح غير شرعي وكاتم صوت “مهرّب” لا يُرخّص حتّى للقوى الأمنية.
اللافت أنّ في هذا المنزل المتواضع شكلاً، كاميرا للمراقبة واضحة الصورة كان ركّبها الشهيد منذ فترة قصيرة، كما لو أنه كان يفترض أنّه مراقب أو خائف. وعليه، رصدت عملية الإغتيال السريعة ولحظة توجّه شابين مدرّبين، من طريق جانبية خلف منزله نحوه، فيما كان “يحمّي” السيارة بانتظار طفلتيه كي يوصلهما إلى المدرسة. ويتبيّن في الفيديو أنّ الشهيد قد سمع صوتاً ما، ثمّ تجاهل الأمر، وجلس في السيارة تاركاً بابها مفتوحاً ومن ثمّ رأى شخصاً يهرول نحوه، فسارع إلى إغلاق الباب إلا أنه لم يتسنّ له ذلك.
فتح القاتل غير الملثّم الباب، ورمى بجاني بثلاث رصاصات (بلا صوت) خرجت بوضوح من جسده إلى الزجاج المواجه له. أما الشاب الثاني فكان يرتدي خوذة درّاجة نارية وشنطة، وفتّش على هاتف بجّاني وأخذه ليهربا مُسرعين إلى الجلّ المجاور، ومنه إلى جلال أخرى، وبعدها نحو الطريق العام.
في رثاء جوزيف
وجده أهله مضرجاً بالدماء ويلفظ أنفاسه الأخيرة، ونقلوه إلى مستشفى السان شارل، لكنّه ما لبث أن فارق الحياة، في حين حضرت عناصر من الأجهزة الأمنية والأدلة الجنائية إلى المكان، وباشرت التحقيقات بالحادث ورفع البصمات، والإطّلاع على فيديو المراقبة.
وأغلق عدد من الأهالي في الكحالة الطريق، بالتزامن مع قرع أجراس الكنائس تنديداً بالجريمة. أما الجيران والشباب الذين قطعوا الطريق استنكاراً، فكانوا يتداولون الشكوك حول دوافع المجرمين الذين أردوا جوزيف شهيداً شاباً مغدوراً، حيث قال أحدهم لـ”نداء الوطن”: “لا بد وأنّه قد وثّق أدلّة ما حول انفجار المرفأ، فكونه مصوّراً معتمداً متطوّعاً لدى الجيش اللبناني، فهو حُكماً يحمل تصريحاً بالتواجد المتكرّر في المرفأ ومن غير المستبعد أن يكون قد جمع في هاتفه أدلّة كافية ومزعجة إلى حدّ اغتياله في عقر داره وبكلّ وقاحة وأريحية”، ومنهم من كان يربط مقتله بمقتل العقيد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي الذي اكتشف جثّة هامدة في منزله بعدما ضُرب بآلة حادة على رأسه أنهت حياته، وكذلك بمقتل العقيد المتقاعد في الجمارك جوزف سكاف الذي قتل من أمام منزله أيضاً منذ ثلاث سنوات. الشهداء كثر والرابط واحد “مرفأ بيروت” ومكان القتل واحد “في بيوتهم”!
مختار البلدة والهاتف
من جهته، أوضح المختار عبدو أبي خليل لـ”نداء الوطن” أنّ “جوزيف يُعتبر من خيرة شباب الكحالة، ومعروف بحسن سيرته ويحبّ التصوير ويتواجد في أغلب المناسبات الخاصة بالجيش اللبناني، وكان يعمل أيضاً في شركة “ألفا” للإتصالات وليس من الأشخاص المستفزّين أو ما إلى ذلك”. ويتابع: “أهمّ ما في القضية أنّ المعلومات الموجودة على هاتفه قد كلّفته حياته، وما يؤكّد أنّ ميليشيا قد قامت بقتله هو أنّ القاتل استخدم كاتماً للصوت ولا يُمكن لأيّ شخص الحصول على هذا الكاتم وممنوع أن يُباع حتى للأجهزة الأمنية، ويباع فقط عبر مهرّب أو سوق سوداء”.
رئيس البلدية: مافيا كبيرة
في السياق، قال رئيس البلدية وقريب جوزف، جان بجّاني لـ”نداء الوطن”: “من نفّذ العملية مافيا كبيرة، بخاصة أنّ السلاح الذي استُخدم كان بكاتم صوت، وأقفلنا الطريق اليوم لإيصال صرخة للقضاء وكي نكون صوت طفلتي جوزيف اللتين تيتّمتا عن عمر صغير بلا ذنب. على التحقيقات أن تكون سريعة، وأن تتمّ محاسبة الفاعلين”.
وفي حديث خاص لـ”نداء الوطن” مع خالة الزوجة، دانيال عاصي، استبعدت أن يكون “لجوزيف ابن الـ34 ربيعاً، أي سرّ يكتمه، فهو كان شفّافاً ضحوكاً ولا يعرف كتم الأسرار، فبمجرّد النظر إلى عينيه يمكنك أن تكشف مكنوناته، ولا يمكن أن يكون قد عرّض حياة بناته للخطر، لا بل كان أباً محبّاً وزوجاً حنوناً، وجلّ ما يريده هو الهجرة لتأمين مستقبل صالح لعائلته”.
صمت الزوجة
الزوجة، حبست دموعها، وقالت: “أعتنق الصمت، أعتنق الصمت ولن أقول إلا أنّنا كنّا سنسافر بعد مدّة بسيطة… فقد حصلنا على تأشيرة من السفارة الكندية. كنا سنترك البلد بعد كل الأحداث المأسوية التي مرّ بها لبنان”. وتابعت “لا أعلم… ليس لديه أعداء، ولم تظهر عليه بوادر خوف أو قلق ولا أعلم، لا أعلم شيئاً، ما أعرفه أنّ ابنتي تظنّ أنّ والدها في المستشفى وسيعود بعد قليل. ماذا أقول لها؟ لن أقول شيئاً”. ربّما وجدت نايلة خوري، كشريكة الضحيّة في السرّاء والضرّاء الصمت وسيلة للنجاة من سطوة المجهول الذي طرق باب عائلتها فجأةً وخطف منها الشريك، وأداة تعبير قوية عن الإحتجاج على ما استفاقت عليه من فاجعة، واعترافاً بالعجز إزاء أسلوب مافيوي كهذا ارتُكب بحقّ عائلتها الصغيرة، أو أمام الوعود بكشف الحقيقة خلال “48 ساعة” التي باتت على كلّ لسان مطمئن يعِدها بأن هناك “دولة” و”قضاء” و”محاسبة” في هذا الزمن الذي بات فيه القويّ قويّ السلاح.