كتب أنطوان الحاج في “الشرق الاوسط”:
في 27 أيلول الماضي اندلعت أعمال العنف في منطقة ناغورني قره باغ في جنوب القوقاز، في فصل آخر من فصول الصراع بين أرمينيا وأذربيجان على هذه المنطقة الجبلية، وهو صراع بدأ في السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي الذي كان البلدان الجاران عضوين فيه. ولم يكن هذا الاشتباك هو الأول منذ أن وضع بروتوكول بيشكيك للعام 1994 حداً لإطلاق النار وقتذاك، لكنه كان الأول من حيث نتائجه التي ستكون طويلة المدى لكن ليس بالضرورة نهائية.
أنشأ ما كان يعرف بـ«مجلس الأمن والتعاون في أوروبا» (صار لاحقاً « منظمة الأمن والتعاون في أوروبا») عام 1992 «مجموعة مينسك» لتنهي النزاع على قره باغ بين اذربيجان وأرمينيا، وهو صراع معقد بحكم التاريخ («تركيّة» اذربيجان والسجل المثقل بين كل ما هو تركي وكل ما هو أرمني) والجغرافيا (قره باغ الأرمنية تقع ضمن أراضي أذربيجان). وتتولى الرئاسة المشتركة للمجموعة فرنسا وروسيا والولايات المتحدة. أما الأعضاء الآخرون فهم بيلاروسيا وفنلندا وألمانيا وإيطاليا والسويد وتركيا، وكذلك أرمينيا وأذربيجان.
فصل مختلف
قبل معركة ناغورني قره باغ الأخيرة، وقع اشتباك حدودي بين جيشي أرمينيا وأذربيجان في 16 يوليو (تموز) أسفر عن مقتل 16 شخصاً على الأقل، وأعقبته أكبر تظاهرة منذ سنوات في العاصمة الأذربيجانية باكو، وقد علت فيها هتافات لاستعادة السيطرة على قره باغ.
المهم أنه في الفصل الجديد ثارت المشاعر وتصاعد التوتر وعلت قرقعة السلاح، ونشبت معركة لم تنتهِ كسابقاتها، بل أنتجت واقعاً جيوسياسياً جديداً في القوقاز الجنوبي، وارتسم خط تماس بين لاعب عائد بقوة إلى تلك الساحة اسمه تركيا، ولاعب تقليدي موجود هناك دائماً ليحرس بوابته الجنوبية هو روسيا.
هو خط تماس بين قوة إقليمية تحاول الاضطلاع بدور متعاظم في أكثر من اتجاه، وقوة دولية تسعى إلى استعادة ما كان، أو أقلّه عدم خسارة المزيد لمصلحة الخصم السابق في عقود الحرب الباردة.
حضرت تركيا بقوة إلى جانب أذربيجان، سياسياً بحساب مفتوح وميدانياً بشكل لم يُعرف مداه الحقيقي. أما روسيا فكان موقفها فاتراً ولم تتدخل علناً ومباشرة إلى جانب الأرمن. كيف تفعل وأرمينيا نفسها أحجمت عن الدخول في الحرب، مكتفية بالصراخ ومتجنبة الإنخراط في حرب شاملة مع أذربيجان.
ولنتذكّر هنا أن أرمينيا، العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى جانب روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، ابتعدت في السنتين الماضيتين عن موسكو وإن من دون أن تخرج من المعاهدة كما فعلت أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان. فرئيس الوزراء نيكول باشينيان الذي أتى إلى السلطة على حساب سيرج سركيسيان بعد ثورة بيضاء عام 2018، حرص على تصوير نفسه زعيماً وسطياً يريد إبعاد بلاده عن المَحاور. وقد قال في هذا الصدد: «يصوّرني كثيرون الآن في وسائل الإعلام الغربية على أنني سياسي موالٍ للغرب. لقد ذكرت مراراً أنني لست مؤيداً للغرب، ولست مؤيداً لروسيا، ولست مؤيداً للولايات المتحدة. أنا سياسي مؤيد للأرمن».
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل يسمح موقع أرمينيا الجغرافي ووقائع تاريخها بتحييد النفس عن المحاور؟ واستطراداً هل يتجاهل باشينيان أن في مدينة غيومري قاعدة عسكرية روسية كبيرة وأن الوجود العسكري الروسي يعود إلى العهد السوفياتي؟
الحذر الروسي
في أي حال، لا يمكن اعتبار روسيا راعياً وضامناً لأمن ناغورني قره باغ كما هي حال أرمينيا، بل تكتفي بحماية الأخيرة مع الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع أذربيجان.
لذا رأيناها تضطلع بدور الوساطة في النزاع الأخير، خصوصاً عبر وزير خارجيتها المحنّك سيرغي لافروف الذي قاد ماراتون المفاوضات مع نظيريه الأرمني والأذربيجاني، ونجح في في النهاية في إقرار اتفاق لوقف إطلاق النار، بمباركة أميركية تتفرّع منها مباركتان تركية وأوروبية.
والواضع أنه من المهم على الدوام لروسيا إقامة علاقة متوازنة مع كل من أرمينيا وأذربيجان لأسباب عدة، أهمها وجود جاليتين أرمينية وأذربيجانية كبيرتين في روسيا، كذلك رغبة روسيا في الاحتفاظ بوجود عسكري في أرمينيا مع وجود علاقات جيدة مع أذربيجان التي تشترك في حدود (تم ترسيمها عام 2010 بعد 14 عاماً من المحادثات) مع منطقة داغستان الروسية التي تملك الكثير من بذور القلق والاضطراب.
والمؤكد أن روسيا لا تريد تدهور العلاقات مع يريفان أو باكو لأن لديها من «الصداع» ما يكفيها في جنوب القوقاز في ظل العلاقات المتوترة منذ سنوات مع جورجيا.
وقد نجحت موسكو في تحقيق نقلة ميدانية في اتفاق وقف النار مع تكليف قواتها (نحو ألفي جندي) بالتمركز في قره باغ في دور حفظ للسلام لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، الأمر الذي يعني وجوداً شرعياً لها في أراضي أذربيجان واعترافاً بدورها الأساسي هناك. غير أنها في المقابل اضطرت للتسليم بالدور التركي في أذربيجان، وبأن أنقرة هي بدورها ضامن للأمن والاستقرار في المنطقة، على أمل أن يكتفي الرئيس «الطموح» رجب طيب إردوغان بذلك ولا تنفتح شهيته على الاستثمار في «تركيّة» مناطق أخرى مجاورة (كازاخستان، قيرغيزستان، تركمانستان، أوزبكستان).
خطوط تماس
كان النزاع الأذري – الأرميني مثالاً ساطعاً على صراع الدول والأقاليم، وهو صراع أفضى إلى تبدلات في الأرض والديموغرافيا، وتوافقات سريعة بين المعنيين «الكبار» على رسم خطوط تماس تحفظ لكل طرف مواقع استراتيجية، ونعني هنا تركيا من جهة وروسيا من جهة أخرى.
أما أذربيجان وأرمينيا فتفاوتت أوضاعهما، الأولى استعادت أراضي تعتبرها جزءاً من سيادتها، والثانية تلقت صفعة كبيرة أفقدتها مكاسب حققتها في تسعينات القرن الماضي. لكن في الواقع، الدولتان هما خاسرتان، وكان من الأفضل لهما أن تحلا مشكلاتهما مباشرة بدل تسليم زمام الأمور للآخرين، لأن الآخر سيعمل لمصلحته أولاً قبل الالتفات إلى مصلحة «الموكِّل».
ولا بد من ذكر الدور الأوروبي، أو بالأحرى اللادور الأوروبي. إذ بدا واضحاً أن الاتحاد الأوروبي لا يملك أي ثقل في تلك المنطقة المجاورة. والمعنى الأعمق لذلك، أن صراعاً استراتيجياً كبيراً دار على مسافة قريبة من القارة من دون أن يكون لها تأثير فيه.
ماذا عن الولايات المتحدة؟
هناك من يعتقد أن تركيا تصرّفت دون الرجوع إلى واشنطن، وهناك من لا يصدق ذلك البتة. بمعنى آخر، هل يمكن أن يذهب إردوغان إلى حد التحرّك في كل المناطق المحيطة ببلاده من تلقائه؟
الأرجح أن وراء الموقف التركي ضوءاً أخضر أميركياً مؤداه أن «حدود» الولايات المتحدة تتوسع وتلتف حول روسيا، من البلطيق إلى القوقاز.
لعبة الأمم أسقطت خمسة آلاف قتيل خلال وقت قصير، وسببت أضراراً مادية، وتهجيراً. وأثبتت أن التحولات لا تتوقف في عالم يقف على أرض التاريخ والجغرافية وتسيّره قاطرة المصالح الاقتصادية…