Site icon IMLebanon

“جنون الأزمات” يعصف بمستشفى دير الصليب.. وصل الشحّ الى خزائن الطعام!

كتبت أنديرا مطر في “القبس”:

لم يسلم أصحاب الأمراض العقلية من جنون الأزمات التي تعصف بلبنان.

جولة داخل مستشفى دير الصليب التي تعرف بـ«العصفورية» كفيلة بنقل صورة تراجيدية عن أوضاع هذا المصح الذي يؤوي نحو ألف مريض لا يمكن لأحد تحمل معاناتهم، والذي تضرر بشدة بفعل النكبة الاقتصادية المخيمة على البلاد، وفق تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية. وصل الشح الى خزائن الطعام.

فقد أدت الأزمة المالية وانهيار العملة الوطنية، إلى إفراغ خزائن هذا المصح، تقول الراهبة جانيت أبو عبدالله بأسى: “لدينا ما يكفي لإطعام المرضى لمدة شهر ونصف الشهر. بعد ذلك، ستتدبر العناية الإلهية أمرنا”.

افتتح الراهب الكبوشي جاك حداد المعروف بأبونا يعقوب، هذه المؤسسة عام 1951، وقد شيدت في موقع دير سابق لراهبات الفرنسيسكان في جل الديب القريبة من بيروت، آنذاك كانت «العصفورية»، التي أنشأها مبشر سويسري من الكويكرز عام 1900، المكان الرئيسي لاستقبال المرضى النفسيين في بيروت. لكن هذا المصح أغلق أبوابه عام 1982 بعد تعرضه لقصف متكرر خلال الحرب الأهلية. في السنوات التي تلت إقفاله، أنشأت مستشفيات عدة أقساماً مخصصة للطب النفسي. لكن أياً منها لم يكتسب أهمية المؤسسة التي تديرها جمعية الفرنسيسكان، الوحيدة المكرسة بالكامل لعلاج الأمراض العقلية والنفسية.

اليوم اصبح هذا المستشفى الكبير (يحوي 1000 سرير وتشغل 376 موظفًا) كمريض في غرفة الانعاش ينتظر جرعة أكسيجين من المانحين وفاعلي الخير. لا مكان يتسع للمعاناة يتلقى المرضى بمعظمهم الرعاية على نفقة وزارة الصحة التي تخصص 40 ألف ليرة للفرد في اليوم. لكن هذا المبلغ (المفترض) لتأمين الغذاء والدواء ورواتب الطاقم الطبي، كان يساوي 25 دولاراً قبل الأزمة، وأصبح مع انهيار العملة الحاد يعادل 5 دولارات.

المديرة العامة لمستشفى «دير الصليب» الأخت ماري يوسف، تقول بقلق ظاهر «أخشى أن يأتي يوم لا يكون لدينا ما نطعمه مرضانا. هذه الفكرة تطاردني. ماذا سنفعل بعد ذلك؟ لا تمكننا إعادة هؤلاء الأشخاص إلى منازلهم. بعضهم خطير للغاية، وآخرون نبذتهم عائلاتهم باعتبارهم عاراً عليها، لدينا حالة رجل أعلن والده وفاته. لا مكان آخر يمكنه احتواء كل هذه العذابات». المرضى في المصح لبنانيون بمعظمهم. لكن هناك أيضًا فلسطينيين وسوريين وعراقيين، مسيحيين ومسلمين.

في جناح الأطفال، تزدحم غرفة المعيشة بأجساد مشوهة، بعضها يجلس على مقعد، والبعض الآخر يفتعل إيماءات مفاجئة. هنا، تُسمع آهات، صرخات، همسات مبهمة. أما أثقل الحالات فهي لـ«طفل» يبلغ من العمر 37 عامًا ببشرة شاحبة، تركته والدته المدمنة على الكحول والمصابة بالاكتئاب أمام بوابة المستشفى وهو في الثالثة من عمره. يعاني من تشوه إضافة إلى التخلف العقلي.

تقول الأخت ماري يوسف: «كانت عمته تأتي لزيارته يوميا قبل تفشي فيروس كورونا»، لكن منذ آذار الفائت، تم إلغاء جميع الزيارات، هذا الحرمان صعب للغاية بالنسبة للمعاقين، وعلى الرغم من هذه الاحتياطات الصحية، وصل الفيروس الى المستشفى وأودى بحياة مريضين، كما أدى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، وهو مصيبة أخرى من مصائب هذا العام الأسود، إلى تحطيم أبواب ونوافذ المصح، معضلة.

الأزمة النقدية طالت بشكل كبير قدرة المستشفى على توفير الدواء «نطلب من الوزارة خمسين صندوقًا من الأدوية المضادة للذهان، فنحصل على خمسة» تقول مديرة الصيدلية، ولمنع نفاد المخزون، يلجأ العاملون الى استخدام ادوية الجينيريك ولو اضطرهم الامر الى التوجه الى طرابلس، لكن أنواعًا معينة من الجينيريك، بدأت تختفي ايضاً.

الحكومة المستقيلة شبه غائبة عن السمع، وتبلغ مستحقات المستشفى منها 42 مليار ليرة أي ما يعادل 27 مليون دولار قبل انهيار الليرة، وتفادياً لاقفال المصح، تعتمد الراهبات على المانحين، منظمات غير حكومية وفاعلي الخير، ويسجل في قائمة هؤلاء «الهلال الأحمر» الكويتية التي قامت أخيرا بتزويد المستشفى بـ3000 كيس طحين و2000 بطانية و1400 حصة غذائية و1300 كرتونة منظفات، وتقول الأخت ماري يوسف: «لقد فهم بعض مرضانا أن الوضع حرج، لكنهم يعرفون أننا لن نتخلى عنهم أبدًا، ويشعرون هنا بالدعم، مثل طفل بين ذراعي والدته».