بعد دقائق من جريمة قتل الشاب جوزف بجاني في الكحالة، توالت ردود فعل، سياسية وإعلامية، لتصبّ في خانة اتهامات سياسية وربطها بانفجار المرفأ أولاً، ومن ثم بعمله في شركة اتصالات. وكذلك لتعيد التذكير بسلسلة جرائم وقعت أخيراً من دون كشف أسبابها، من قتل العميد المتقاعد منير أبو رجيلي في قرطبا إلى قتل المدير في بنك بيبلوس أنطوان داغر في الحازمية، وقبلها قتل العميد جوزف سكاف. بعد ساعات من الجريمة وما أعقبها من تساؤلات سياسية حول دور الأجهزة الأمنية والجيش تحديداً في عدم الكشف عن هذه الجرائم، خصوصاً تلك التي وقعت في مناطق تُعتبر في حرم وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، كان قائد الجيش العماد جوزف عون يزور بكركي ليقول إن الجيش على أتمّ الجهوزية لمواجهة أي خطر محتمل!
قبل أسابيع، قيل كلام أمني في المجلس الأعلى للدفاع، وحذّرت تقارير غربية من استغلال التوتر السياسي لإحداث إرباكات أمنية. لذا، يمكن السؤال جدياً: هل الأمن الاستباقي على قدر من الاستنفار لمواكبة هذه التحذيرات؟ وهل الأجهزة الأمنية على جهوزية كاملة لمواجهة الأخطار المحتملة الداخلية والخارجية؟ وهل يمكن الكلام فعلياً عن تفعيل الأمن مقابل تفعيل الخلايا النائمة؟
بين الكلام عن إرهاب التنظيمات الأصولية والتحذير من استغلال أوضاع اقتصادية مُزرية، وقعت سلسلة جرائم، خطورتها – حتى لو تبين لاحقاً أنها غير سياسية – أنها وُضعت فوراً في إطار سياسي، وسط تجاذب داخلي حادّ، تزكّيه حملات إعلامية وسياسية، وضخّ معلومات غير موثوقة ومجهولة المصدر وناشطون على وسائل تواصل اجتماعي يتحوّلون في لحظات، كما جرى أول من أمس، إلى محللين استراتيجيين. لكن، في المقابل، هناك تقصير أمني حتى في المواكبة «السياسية» لما جرى، لأن الأمن السياسي حالياً أخطر من أي أمن آخر. فالجرائم التي وقعت، ورغم أنها يمكن أن تحدث في أي منطقة وبلد، أخذت فوراً طابعاً سياسياً وطائفياً، مع التركيز على انتماء واحد للضحايا والمناطق التي سقطوا فيها، خصوصاً بعد تداعيات انفجار المرفأ وتعثر التحقيق فيه. من هنا، على القوى الأمنية مسؤولية معنوية، على الأقل لناحية تصويب كل ما يقال، في موازاة التحرك لكشف الجرائم. فعلى سبيل المثال، لم يخرج الجيش حتى الساعات الأخيرة بما هو واضح حول طبيعة عمل بجاني، بعدما استخدمت مهنته كمصور عسكري وسيلة للتصويب الإعلامي والسياسي على استهدافه. ولم ينف الجيش أو يؤكد ما إذا كان الضحية فعلاً مصوراً يتعامل مع الجيش. علماً أن مصدراً عسكرياً أكّد لـ«الأخبار» أن بجاني «ليس موظفاً لدى الجيش ولا يتعامل معه. إلا أن الالتباس لا يزال موجوداً لأن معلومات تتحدث عن أنه كان يحصل على تراخيص عسكرية لمزاولة مهنته. هناك أسئلة تحتاج إلى توضيح لا تتعلق بالتحقيق ولا بكشفه، بل بالجو العام الذي يسبق أو يلي عملية من هذا النوع، أو من تلك التي وقعت سابقاً، لأن هناك منحى يسعى إلى تجاهلها وعدم التعامل معها أمنياً بوضوح وشفافية.
الجواب الأمني الأول عن التساؤلات لفت إلى «مستوى من الاحترافية، في تنفيذ العملية الأخيرة، وهذا النوع من العمليات لا يمكن توقّعه ولا مراقبته أياً تكن التدابير الأمنية. لأن الدوريات العسكرية مثلاً يمكن أن تزرع الخوف لبعض الوقت، لكنّ عمليات من هذا النوع، بالطريقة التي نُفذت فيها ودرس الموقع الجغرافي المنعزل للمنزل المستهدف، ومن ثم طريق الفرار وغيرها، من أولى الإشارات التي تدل على عملية محكمة والتي لا يمكن لأي جهاز أمني مهما بلغ مستواه أن يتوقعها. وهذه لا تشبه أي جريمة عادية أو سرقة يمكن كشف أدلتها بسرعة وملاحقة المتورّطين فيها وتوقيفهم». إضافة إلى أن المنطقة المستهدفة مثلاً في العملية الأخيرة، لا تقع في مناطق مصنّفة أمنياً خطرة بالمعنى الذي يستوجب اتخاذ تدابير محكمة فيها. والتحدي الآن، في مرحلة ما بعد الجريمة هو كيفية التعامل معها بجدية وبسرعة.
بناءً على إشارة النيابة العامة التمييزية، يتولى فرع المعلومات في قوى الأمن التحقيق في اثنتين من الجرائم الثلاث (جريمتَي قرطبا والحازمية). لكنّ التحقيقات لم تتوصل إلى أي شيء ملموس. شبهتا السرقة في كلتيهما، لم تمنعا الفرع من مواصلة التحقيقات في مختلف الاتجاهات. في المقابل ، ورغم أن جريمة الكحالة هي أيضاً من اختصاص فرع المعلومات، إلا أن مخابرات الجيش باشرت على الفور مواكبتها ميدانياً على كلّ مستوياتها، وسط استنفار وتنسيق مع المعلومات. علماً أن الانطباع الأول لا يزال يتركّز حول احترافية العملية، وضرورة رفع مستوى المواكبة وسرعة التحقيقات.
المفترض أن يكون الأمن استمرارية، لكنّ المرحلة الحالية مرحلة تغيير أمني وقيادات جديدة بدأت تمارس عملها تحت وطأة ضغوط متفاوتة، والجيش ومخابراته مركزياً وعبر الفروع في حالة انطلاقة جديدة بعد التعيينات العسكرية الأخيرة. في التعليمات الأولى إعادة تفعيل كامل المديريات والفروع وتنشيطها واستنفار عالٍ في الأجهزة المرتبطة أمنياً، في كلّ المناطق، وقد شهدت الأيام الأخيرة حملة استنفار وتفتيش في بعض النقاط والبقع الأمنية وبعض مخيمات النازحين استكمالاً لنشاط مكافحة الإرهاب. لكنّ حجم المطالبات السياسية في الساعات الأخيرة ليس قليلاً، لأنه يضع الجيش مثلاً في مقدم الحدث الأمني والسياسي، في ما يتعلق بجرائم قتل. وهو يمكن أن يتذرّع بأن هذه الجرائم هي من مسؤولية قوى الأمن، علماً أنه مكلّف بمهمات أمنية وحفظ الأمن. كذلك فإن تداعيات هذه الجرائم إعلامياً وسياسياً، محلياً وخارجياً، تنعكس على جو الاستقرار العام، ما يحتم التعامل معها على قدر أكبر من الأهمية، ومن اعتبارها مجرد جرائم عادية. علماً أن شعار الأمنيين الدائم هو أن الأمن يحتاج إلى استقرار سياسي وليس العكس، وهذا ليس متوافراً حالياً. وقد لا يتوفر في الأشهر المقبلة.