كتبت مريم مجدولين لحام في “نداء الوطن”:
لا يُمكن أن يدعم سياسيّو لبنان، مهما ارتدوا أقنعة الحملان، “قضايا المرأة” من دون مقابل. هم يدعمون كلّ ما يفيدهم ويدرّ عليهم المنفعة. ولن تخرج قاعات عدلنا، ولا مخافر الإدلاء في لبنان عن منظومة “تطبيع التحرّش”، وقبوله كفعلٍ مألوفٍ متكرّرٍ بضربة ساحر، فور إقرار البرلمان اللبناني قانون “معاقبة مرتكبي جريمة التحرّش الجنسي، ولا سيّما في أماكن العمل وتأهيل ضحاياه”. بل، قد نكتشف أنّ شتّان بين ما هو حقّ على الورق، وما سيطبّق فِعلياً على أرض الواقع.
اعتبر المحامي مجد حرب أنه “في إطار الخطوة العملية الأولى، يمكننا أن نرحّب بالقانون كمسار رسمي أوّلي وأرضية قانونية لم تكن موجودة مسبقاً، وتهدف للحدّ من استباحة الضحايا واستضعافهم في المجالين العام أو الخاص”.
إلا أن هناك العديد من الملاحظات القانونية التي يمكن تسجيلها على أن تكون “العبرة في التطبيق” وألا تتحوّل بعد مدّة “قوانين شكلية”. ويتابع: “بما أنّ التحرّش اضطراب سلوكي يدعمه خلل مجتمعي، لا بد من أن تكون هنالك آلية مختلفة للتحقيق، من الذهاب إلى المخفر للإدلاء بواقعة تحرّش حسّاسة، كما ذكر القانون أنّه وعند “الاستماع إلى الضحية، يجب مراعاة حالتها النفسية واتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة من أجل ضمان حمايتها وحماية الشهود، وذلك في جميع مراحل التحقيق الأولي والإبتدائي والمحاكمة”، وذلك من دون ذكر آلية إبلاغ خاصة تتناسب مع الضحيّة ورغبتها بالخصوصية بعيداً من المسار الجزائي المتّسم بالعلانية. وعليه، نفترض أن الإبلاغ سيكون عبر المخافر اللبنانية غير المدرّبة للتعامل مع وقائع كهذه، وهنا يمكن لضحيّة السلوك غير المقبول أن تتفادى اللجوء إلى المخفر كونه غير مؤهّل ليكون بيئة حاضنة لها لعدّة أسباب، أهمّها أنّه خيار غير واقعي، أو ربّما لأن المحقّق ذكر، أو خوفاً من النظرة المجتمعية السائدة للمحقّقين، أو اعتقاداً بأنه سيتمّ استسخاف الجرم الحاصل. فعلينا أيضاً العمل على تغيير الثقافة السائدة حول هذه المواضيع المرتبطة بموروثات قيمية، تجعل من الضحيّة أكثر هشاشة عند الإعتراف بما حدث معها.
ناهيك عن أنه لا ضمان لسرّية التقرير، ولا لسرّية هوية الضحيّة. وبالرغم من أنّ القانون قد ذكر أنه “يجب مراعاة الحالة النفسية للمبلّغ”، إلا أنّه لا يضمن ذلك بشكل قاطع. ومن هنا ننطلق أنه يجب أن يحدّد مكتب خاص للتبليغ، يكون فيه المحققون أو المحقّقات مدرّبين أو جاهزين للتعامل مع قضايا التحرّش الجنسي بشكل خاص، والتأكّد من أنّ هوية الناجين والناجيات ستكون محمية، وأن يتمّ التعامل مع أي ضحية من دون اطلاق احكام مسبقة، ومن دون تمييز، سواء أكان ذلك على أساس سمة أو أكثر، مثل الخلفية العرقية أو الاجتماعية أو السياسية، أو اللون أو الهوية والتعبير الجنسانيين أو الميل الجنسي أو الإحتياجات الخاصة (الإعاقة) أو الجنسية أو السنّ أو المظهر البدني وغيره، على أن ينطلق هذا المكتب المتخصّص من موقع حماية الضحية بشتى الطرق المتاحة، افتراضاً منّا أنّ الهدف الأول من هذا القانون هو توفير آلية دعم، ومناصرة تساهم في كسر الصمت، وتساعد الضحايا في اللجوء إلى المسلك القانوني وكنف حماية الدولة لهم ولهنّ، بخاصة أن ردّة فعل الجهات الأمنية عامل معمّق لامتناع المعتدى عليهنّ عن التقدّم بأي شكوى”.
كذلك، أوضح حرب أنّ في القانون “استخداماً لمصطلحات “مطّاطة” التفسير، مصبوغة بطابع أخلاقي في تعريف جرم التحرّش كعبارات “سلوك سيّئ” و”خارج عن المألوف” و”ذي مدلول جنسي”، حيث طالما أنّ الأفعال غير معرّفة وأنّ هناك نقصاً في التحديد، تبقى الأمور مطّاطة أيضاً عند القضاة والمحامين. أضف إلى ذلك أنه وبالرغم من أنّ القانون يشمل التحرّش في أماكن العمل، إلا أنّه لا يحثّ جميع المؤسسات والشركات اللبنانية، بخاصة الكبيرة منها، على وضع آلية شكوى ونظام داخلي يحمي الموظّفين والموظّفات من التحرّش”.
نقطة أخرى أشار إليها حرب وهي أنّه “لم يحتوِ على “أوامر حماية تلقائية” تحظّر الشخص المدان بجريمة التحرّش من الاقتراب أو التواصل مع الضحية بأي طريقة وبصفة نهائية،على أن تؤدّي مخالفة أوامر الحماية إلى الحبس أو الغرامة مثلاً، على أن يجوز لقاضي التحقيق أو المحكمة عند الإقتضاء، إصدار أمر يحظّر الملاحق قضائياً من الإتّصال بالضحية، أو الاقتراب من مكانها إلى حين بتّ المحكمة بالقضية. كما أنّه لم يجبر المحكوم عليه اثناء تنفيذه العقوبة السالبة للحرية أو الغرامة، لعلاج نفسي اجباري يساعده على عدم تكرار جرمه”.
السرّ في “الصندوق”
ولا يخلو البرلمان من الخطاب الذكوري، وتنتشر بين أكثرية المتعاطين بالشأن السياسي تصريحات بالغة الابتذال بين نائب يدلّ زميله إلى الموظّفة “كارولين” ومشرّع “يرفض حكم النساء للرجال في منطقته” ووزير ينمّط دور المرأة ويربطها بالمطبخ. فما الذي دفع هكذا “زُمرة” إلى التصويت على قانون يخدم النساء بالدرجة الأولى؟!
لِمن لم يطّلع على تفاصيل القانون، وفي المادة السادسة منه، سيتمّ إنشاء “صندوق خاص لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، يتولّى مساعدة ضحايا التحرّش الجنسي وضمان الرعاية لهم”، أسوة بصندوق المهجّرين وصندوق الجنوب وصناديق التنفيع الأخرى التي أوضح حرب أنّها “خطوة غير عملية، تفتح الباب أمام محسوبيات سياسية، وتوظيفات حزبية غير مؤهّلة، وزبائنية وفساد ومحاصصة، ففي وقت هناك اتجاه لاغلاق الصناديق للحدّ من الفساد تبعاً لنصائح الـIMF وغيره، نفتح صندوقاً جديداً تابعاً لوزارة الشؤون الاجتماعية يموّل من مساهمات الدولة، أي من جيوب المواطنين، ويُرصَد لهذه الغاية اعتماد في الموازنة العامة السنوية لوزارة الشؤون الاجتماعية، كما تضاف إليه هبات من الأمم المتحدة أو الدول، وهو باب آخر للهدر، بالإضافة إلى أنه سيتم تمويله من “10% من قيمة الغرامات” و”يسدّدها المحكوم عليه لصالح الصندوق…على ان تحل إدارة الصندوق محل الادارة الضريبية لجهة متابعة تحصيلها”!
وأضاف حرب “حتى أنه بهذه الطريقة، لا تترك حرية التصرّف بالتعويضات المرصودة من الدولة للضحية، بل تعرّضها للتعامل أيضاً مع موظفي دولة لا يحمون هويتها السرّية، وإلى آلية غريبة للاستفادة من برنامج اعادة التأهيل، فهل ستحصل على بطاقة “ناجية”؟ وما هي الضمانات التي قدمها القانون لها كي يحمي هويتها ومعلوماتها الكاملة والبرنامج التأهيلي الذي تخضع له؟ على الأقلّ، وبما أنّ القانون قد مرّ، يجدر الحاقه ببند يجرّم فضح الملفات أو إفشاء هوية الضحايا ويجبر “موظفي الصندوق” على الإلتزام بالسرّية”.
لا لوم إن حكمنا على “صندوق التحرّش” باعتباره عملاً محاصصتياً ممنهجاً، يُربط في ذاكرتنا اللبنانية بالفساد الحتمي، بناء على التجارب الكثيرة السابقة.. ولمحاسن الصدف، مرّ هذا القانون بسلاسة غير مسبوقة في فعل لا ينبّهنا إلا إلى أن ّواقع استنزاف الجيوب لم يتبدّل، وأنّه لن يُترك قانون ذو شأن من دون “تلطيخ”.