كتب حبيب معلوف في جريدة الأخبار:
كانت 2020 سنة «استثنائية» على كلّ المستويات. ليس ذلك فقط بسبب أقوى جائحة شهدها العالم منذ زمن، ألزمت معظم سكان الأرض بالبقاء في منازلهم لفترة طويلة وغير مسبوقة، بل لأنها أدخلت العالم في حالة من الشك وعدم اليقين العلمي والفلسفي. وإذا أضفنا إلى قلق الجائحة (وتحوّرها)، قلق تغير المناخ والأزمات الاقتصادية المتفاقمة… يمكن الخروج باستنتاجات بالغة السوء، على المستوى العالمي والوطني والمحلي والعائلي والفردي.
وإذ يستعد العالم لالتقاط أنفاسه مع إنتاج لقاح «كورونا» والبدء بتسويقه، دخل لبنان في السنة المنتهية مرحلة خطيرة جداً من انعدام الأمن الاقتصادي والبيئي والصحي والغذائي مع تراجع إدارة الملفات المتعلقة بكل من هذه المجالات بسبب الانهيار المالي. فيما أدّى هذا الانهيار، على سبيل المثال، إلى الإقبال على بضائع وسلع ومنتجات أقل نوعية، ما يعني زيادة النفايات والتلوث وتراجعاً حتمياً في نوعية الحياة والتسبب بأمراض جديدة ورفع الفاتورة الصحية. 2020 كانت أيضاً سنة الانهيار البيئي الكبير.
تلوّث الهواء: «لا تندهي ما في حدا»!
تلوّث الهواء واحدة من أهم الكوارث المسكوت عنها في لبنان. علماً أن الأرقام تؤكد أن هذه «الظاهرة» تتسبب بعدد وفيات أكبر بسبعة أضعاف (يموت نحو سبعة ملايين شخص سنوياً بسبب تلوث الهواء) مما تتسبب به جائحة «كورونا». كما كشفت أبحاث علمية نُشرت أخيراً عن ارتباط وثيق بين انتشار فيروس «كورونا» وإصابة الأماكن التي تشهد معدلات تلوث أكثر من غيرها. وهذا ما كان يتطلب استراتيجية مختلفة من وزارة البيئة، مساهمة منها في مكافحة الجائحة، تتضمن إجراءات في قطاعات كثيرة مؤثرة على تلوث الهواء، كالنقل وإنتاج الطاقة… لكن، «لا تندهي ما في حدا»!
النفايات: المكبّات إلى تزايد
استمر في عام 2020 التراجع في إدارة ملف النفايات الصلبة على المستوى المركزي واللامركزي. فخطة الطوارئ الممدّدة منذ عام 1997 لأكثر من نصف نفايات لبنان المنزلية الصلبة في العاصمة والقسم الأكبر من جبل لبنان، لا تزال تتمدّد بإجراءات عشوائية، عبر رفع مستوى الطمر على المطامر الشاطئية في برج حمود – الجديدة والكوستابرافا. الإضافة السلبية هذا العام كانت تسبب انفجار المرفأ في تدمير معامل الفرز والتسبيخ في المناطق المجاورة. فيما لا يزال القسم الأكبر من المناطق يعتمد المكبات العشوائية التي بلغ عددها، بحسب آخر إحصاء لوزارة البيئة عام 2016، نحو 941 مكباً. ويرجح أن يرتفع عددها في عام 2021 نظراً إلى تراجع إدارة هذا الملف للأسباب الاقتصادية والمالية والإدارية المعروفة. وقد زادت عشوائية إدارة هذا الملف عموماً مع تراجع قيمة الليرة اللبنانية وحصول خلافات بين المتعهدين والدولة أو الإدارات المحلية على التسعير بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية، ما انعكس سلباً على الخدمة ونوعيتها. كما تراجع أداء المعامل- المتعثر معظمها أصلاً – في بقية المناطق، وتوقف تمويل مشاريع كانت قيد التخطيط بسبب إلغاء الاتحاد الأوروبي هبات كانت مخصّصة لإنشاء معامل جديدة بقيمة 37 مليون دولار.
النفايات السائلة: المشكلة الأخطر
النفايات السائلة، خصوصاً مياه الصرف المنزلية، هي المسبّب الأول لتلوث المياه العذبة السطحية والجوفية ومياه الأنهر والبحر، ما يشكّل تهديداً للثروات البحرية ولمصادر الغذاء والزراعة بسبب استخدام هذه المياه في الري من دون معالجة. وقد بقي هذا الملف دون المستوى المطلوب للمعالجة. وبحسب إحصاءات مجلس الإنماء والإعمار، ينتج لبنان نحو 600 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة يومياً (بمعدل مئة ليتر للفرد) تذهب إلى الشبكات، من أصل بين 160 – 200 ليتر للفرد يومياً. هذه الكميات تتسبب بكوارث أكبر بكثير من تلك التي تتسبب فيها النفايات الصلبة. ورغم تشغيل بعض المحطات على الساحل وفي المناطق بمعالجة أولية (ثانوية) بقيت مشكلة الوحول التي تنتج عنها من دون معالجة، وتنتظر حل مشكلة النفايات الصلبة. ولا تزال أهم محطتين على الساحل خُطط لهما منذ أكثر من 20 سنة (برج حمود والمعاملتين) قيد التحضير، علماً أنهما يمكن أن تعالجا نحو 150 ألف ليتر مكعب يومياً من مياه الصرف. ورغم تلزيم محطة برج حمود بتمويل من البنك الأوروبي للاستثمار بكلفة تصل إلى 25 مليون يورو، لم يأت أمر مباشرة العمل بعد، ويُرجّح أن لا يتم مباشرة العمل في هذه الظروف.
ردميات المرفأ: كارثة جديدة
أضيف إلى ملف النفايات التقليدي في السنة المنصرمة، ملف الردميات الناجمة عن انفجار المرفأ، إضافة إلى طرق إدارة ما بقي من مواد خطرة كانت لا تزال في المرفأ من دون أي إدارة سليمة. لم يجر التعامل مع احتمال تضمّن هذه الردميات نفايات تُصنف خطرة، ولا عرفت وزارة البيئة كيف تدير «المساعدات الدولية» وتدخل الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أو الجمعيات المحلية التي لم تعرف كيف تتصرف في غياب خطة متكاملة كان يفترض أن تكون من ضمن خطط الطوارئ (إدارة الكوارث). ولا يزال هذا الموضوع خارج سيطرة الدولة ووزارة البيئة، بسبب انهيار الدولة ووضع يد الجيش (غير المتخصّص) على المكان، وضعف اللجان التي تشكّلت في رئاسة الحكومة.
المقالع والكسارات: الخداع مستمرّ
في ملف المقالع والكسارات والمرامل وشركات الترابة، استمر تمديد المهل الإدارية للعمل العشوائي وغير القانوني لهذا القطاع الذي دمّر طبيعة لبنان وتسبب بهدر المال العام. حصل ذلك بعد جولات من الإقفال والمراوغة واستغلال ضعف القيّمين على الوزارات المعنية أو تواطئهم مع المستثمرين. وتم تكليف الجيش مجدداً بإجراء مسح لعمل هذا القطاع على كلّ الأراضي اللبنانية لمحاولة تغريم المشوّهين طوال الفترات السابقة من العمل العشوائي. فيما لم تنجح وزارة البيئة في وضع استراتيجية شاملة لهذا القطاع أو في وضع قانون شامل بدل المراسيم التنظيمية التي لم تُحترم أصلاً، كما أخفقت في استحداث مخطط توجيهي شامل يحمي البيئة ويؤمن مداخيل مهمة للخزينة إذا حُصر الاستثمار في أملاك الدولة.
الصيد البرّي: فتح «الموسم» سراً!
فتح وزير البيئة دميانوس قطّار، هذا العام أيضاً، «موسم» الصيد البري بشكل «شبه سري»، من دون الاستناد إلى أي دراسة أو تقييم لوضع الطيور في لبنان وانعكاسات فتح الموسم في السنوات الأربع السابقة عليها، ومن دون درس وضع الطيور والموائل والتنوّع البيولوجي كما يُفترض، لتوجيه أصحاب القرار.
خارج الاهتمام
غاب كثير من المواضيع البيئية الحساسة عن جدول أعمال وزارة البيئة لغياب الرؤية الاستراتيجية لدى هذه الوزارة، مثل مواضيع إدارة المياه وسلامتها وإدارة الغابات والحياة البرية والخطط المتعلقة بترتيب الأراضي أو بمراجعة تقييم الآثار البيئية للمشاريع الكبرى كالسدود السطحية وخطط النقل والمشاريع الزراعية، إضافة إلى إدارة المبيدات والأسمدة الكيميائية ومواضيع مثل الأثر البيئي لتحرير التجارة والاقتصاد ومراجعة المواصفات والمقاييس للسلع والهندسات الجينية واستيراد البذور والأغذية المعدّلة جينياً وأثرها، والقضايا المتعلقة بالتلوث الكهرومغناطيسي وضبط التموّجات وتراخيص الهوائيات وخطوط التوتر العالي، واستيراد المواد الخطرة وإدارتها، ومراجعة سياسات النقل والطاقة ولا سيما استراتيجيات تشجيع إنتاج الطاقة المتجددة ومشاريع الترشيد، واعتماد الوقود الأقل تلويثاً والتخفيف من استخدام السيارات الخاصة، ومراجعة خطط التنقيب عن النفط والغاز التي ستغير من طبيعة لبنان وتأخذه إلى خيارات خطيرة لا عودة فيها إلى الوراء. ومراجعة السياسات السكانية والإسكانية نظراً إلى ما تتركه من ضغوط حاسمة على البيئة… وغيرها من المواضيع الكثيرة ذات الصلة.
وعود عرقوبية لـ«الإصلاح البيئي»
نهاية عام 2015، تبنّت حكومات العالم، بالإجماع، أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر واتفاقية باريس للمناخ. وقد تعهد العالم بالقضاء على الفقر المدقع، وضمان الرعاية الصحية الشاملة، وتوفير التعليم لكل الأطفال بحلول عام 2030. كما تعهدت بلدان كثيرة متقدمة صناعياً بإزالة الكربون من نظام الطاقة لتفادي المخاطر الرهيبة المترتبة على تغير المناخ الناجم عن أنشطة بشرية. وأشار تقرير علمي صدر عام 2018 إلى أن هدف الحد من الانحباس الحراري على مستوى الكوكب، بحيث لا تتجاوز زيادة الحرارة 1.5 درجة مئوية (كما ورد في اتفاقية باريس)، يتطلب إبقاء 80% من الوقود الأحفوري تحت الأرض، اي أن يتوقف العالم فوراً عن التنقيب عن النفط والغاز! فكيف يمكن تصديق كل هذه التعهدات الدولية، في حين أن السياسات الحقيقية للدول لا تزال هي نفسها، ولم تتراجع أي دولة بعد عن اقتصاد السوق القائم على المنافسة وزيادة الإنتاجية.
في عام 2021، مع تولي الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه، ستعيد الولايات المتحدة التزامها بأهداف التنمية المستدامة، وتعود إلى الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ، وتلتزم بالتعاون في إطار هذه الجهود مع بقية العالم. إلا أن تحقيق ذلك يتطلب تراجعاً كبيراً في النموذج الحضاري الذي تقوده الولايات المتحدة نفسها، ولا شيء يدل، لا في خطابات الرئيس الجديد أثناء الحملة الانتخابية ولا في مراكز الأبحاث الكبرى، على أن هناك اتجاهات حقيقية لتغييرات جذرية في الاستراتيجيات والسياسات، ولا سيما في قطاعَي الطاقة والنقل والصناعات الكبرى. علماً أن معالجة تغير المناخ والتكيّف مع نتائجه تتطلب ما لا يقل عن مئة مليار دولار سنوياً كان يفترض أن تؤمّن العام الماضي (2020) بحسب اتفاقية باريس، لكن تم تأمين أقل من 20% منها فقط!
وفي بداية 2020، تبنّت أوروبا ما سُمي «الصفقة الخضراء» التي تدعو الدول الأوروبية إلى إزالة الكربون من نظام الطاقة بحلول عام 2050، وإدارة اقتصاد دائري في الاتحاد الأوروبي يحد من التلوث الصناعي، ووضع برنامج شامل «من المزرعة إلى طاولة الطعام» لتحقيق نظام غذائي مستدام وصحي. ساعد التعهد الأوروبي المعلن اليابان وكوريا على التعهد بالالتزام نفسه، وحفّز الصين على التعهد بإزالة الكربون بحلول عام 2060، من دون أي مؤشر أممي ملزم باتفاقيات! مع العلم أن خطة عمل «صفر كربون» تتطلب إقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص لإنجاز أربعة أهداف رئيسية: تحويل كل عمليات توليد الطاقة إلى الموارد الخالية من الكربون كالرياح والطاقة الشمسية؛ تبني المركبات الكهربائية؛ تحويل المباني من التدفئة بالنفط والغاز إلى الطاقة المتجددة؛ والتحول من الفحم والنفط والغاز في الصناعة إلى الهيدروجين ،وغير ذلك من أشكال الوقود «الخضراء» (الخالية من الكربون)، مع ما يتطلبه ذلك من إلغاء للدعم عن الوقود الأحفوري كلياً ووقف التنقيب!
لكنّ أحداً لم يعلن ما سيكون عليه أثر هذه الخطط على الدخل الوطني القومي لكل بلد، ومدى الاستعداد لدفعه، مع العلم أن موضوع «صفر كربون» يعني أيضاً التحول في قطاعات الطيران والشحن البحري وصناعة الفولاذ والإسمنت وبعض الصناعات الثقيلة الأخرى التي لا تزال تعتمد في معظمها على الفحم الحجري الأكثر تلويثاً… ولم تشرح بعد أي دولة تحدثت عن هذه التعهدات كيف وبأيّ تكنولوجيا بديلة سيحصل هذا التحوّل!