كتب جورج بشير في “الجمهورية”:
مع إطلالة العام الجديد، 2021، يبدأ العدّ العكسي لتنفيذ المبادرة البابوية التي أعلنها البابا فرنسيس، القيام بزيارة الأراضي المقدسة في العراق، بدءاً بالأرض التي ولد وعاش فيها إبراهيم أبو الأنبياء ومسقط رأس الأب الروحي للمسيحية واليهودية والإسلام، وهي الدّيانات السّماوية الثّلاث التي يُؤمن أتباعها بالله وبالحياة الأبدية. إبراهيم الذي دعا أتباعه إلى ترك عبادة الأصنام وتقديم الأضاحي أمامها، حتى الأبناء والأحفاد، والنزوع إلى عبادة الله، مما جعل لإبراهيم مكانة عالية من الإحترام في الأديان السماوية الثلاث، واعتُبر المؤسس للعلاقة الإيمانية لأتباع هذه الديانات بالعزة الإلهية.
يذكر بولس الرسول في إحدى رسائله، بأنّ إيمان إبراهيم جعله النموذج الأول لجميع المؤمنين المختونين وغير المختونين.
إبراهيم، لا يُذكر كثيرًا في المسيحية كما في الإسلام واليهودية. يسوع المسيح هو محور المسيحية، وفكر وجود المسيح الإلهي هو ما يفصل بين المسيحية من غيرها من الديانات. ويقام لإبراهيم قداس في الكنائس المارونية والقبطية، والكنيسة الشرقية الكاثوليكية الروحانيّة والكنيسة اللوثرية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
خورخي بيرغوليو (البابا فرنسيس) كاردينال بوينوس أيرس سابقًا، تحدّث مرارًا في جلساته الحوارية مع المطران شربل مرعي مطران الأرجنتين الماروني، الذي يُعتبر اليوم أوّل مطران ماروني حبيسًا في أحد الأديرة في لبنان، بعد أن أمضى فترة طويلة من حياته الأسقفية في الأرجنتين رفيقًا للكاردينال بيرغوليو (البابا) يلتقيان في نهاية كل أسبوع ويصلّيان ويتشاوران في أمور روحية وإجتماعية ومن بينها، لا بل أهمّها، أوضاع مسيحيّي الشّرق والجذور المسيحية في كل من لبنان وفلسطين والعراق، الذي يستعدّ لزيارته قريبًا، ومصر وسوريا، والمراحل المؤلمة في التاريخ التي تعرّض خلالها المسيحيون الشرقيون للقهر ولا زالوا، من خلال انتزاع حقوقهم الوطنية والتّهجير بحيث تحوّل كثيرون منهم إلى جاليات منتشرة في أنحاء العالم وخصوصاً في دول أميركا الجنوبية والولايات المتّحدة وكندا وأوستراليا، بنوا لهم فيها مجتمعات شرقية معروفة، وبرز مئات منهم من خلال طاقاتهم في الدول التي استضافتهم واحتضنتهم، وكانوا ولا زالوا أوفياء لها، كما لأوطانهم الأم.
إنّ زيارة البابا فرنسيس إلى العراق وحجّه إلى مدينة كور مسقط رأس ابراهيم تاريخية، لأنّها أوّل زيارة للبابا إلى العراق بلد السّريان والكلدان والأشوريين المسيحيين الأوّل، تتمّ تلبية لرغبته، وبناء لدعوة رسمية من رئيس الحكومة العراقي، وسترافقها الكنيسة والعالم كلّه بكل مراحلها، نظرًا للمعاني التاريخية التي تجسّدها، فضلًا عن لفتة البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية المميزة للعراق، هذه الدولة التي ظُلمت، ولمسيحيّيه الذين ظُلموا أيضًا من المجتمع الدولي، خصوصًا دول الشرق الأوسط، ومعظم حكّامه، عندما عَملت في وجودهم وكنائسهم وأديرتهم ورهبانهم وراهباتهم وممتلكاتهم ظلمًا وسلبًا، التنظيمات الإرهابية، من منظمة «القاعدة» الأم إلى «داعش» و»النصرة» و»جند الشّام» وأخواتها، ناهيك عن عمليات القتل والذّبح المنظّم على أيدي شذّاذ الآفاق، ولم يحرّك أحد ساكنًا، مع أنّ هذه المنظمات الإرهابية وأتباعها والدول التي تدعمها ماليًا ولوجستيًّا، كانت تعرض عملياتها هذه في حقّ المسيحيين العراقيين والسوريين على شاشات التلفزة.
ردود الفعل الإقليمية والدولية اقتصرت يومها كالعادة في هذه الأحوال المكفهرة، على تصريحات ومقالات وبيانات الإستنكار والشّجب، فيما المؤيّدون المناصرون المعجبون والمتعاطفون مع هذه التنظيمات المجرمة ومساعدتهم، تتوالى ولا تبلسم الجراح النازفة من رقاب الضحايا من المسيحيين وأجسادهم، وعمليات الهجرة تتوالى من العراق وسوريا وغيرهما، وخصوصاً من فلسطين الجريح، بعشرات الآلاف.
دوائر الفاتيكان برئاسة البابا وأركان الكنيسة، كانوا يراقبون بألم ما يحصل من فظائع خصوصاً في سوريا والعراق، وقبل ذلك في لبنان وفلسطين، ويعملون على مواساة رؤساء الكنائس الشرقية، ويصلّون من أجلهم بإيمان كبير، لأنّ البابا ليس لديه جيش أو ميليشيا، ولا يُؤمن بفرض الأفكار وإتباع أي فكر أو دين بالعنف.
لا شكّ بأنّ العالم كلّه سيتابع مراحل الزيارة البابوية التاريخية الأولى من نوعها وفي مستواها إلى الشرق وإلى العراق بالتحديد، لأنّ البابا وأركان الفاتيكان رافقوا ما تحمّله هذا البلد (العراق) وجارته (سوريا) من عذاب وألم، خصوصًا عندما شنّ الرئيس الأميركي جورج بوش وحليفه الرئيس طوني بلير (رئيس الحكومة البريطانية) الحرب على العراق، بحجّة أنّ هذا البلد أيام الرئيس صدام حسين يمتلك خزّانًا نوويًّا ومصانع لأسلحة الدمار الشامل، وبعد تهجير أكثر من مليون عراقي، وقتل مليون عراقي آخر وحلّ الجيش العراقي واحتلال العراق بالكامل، اعتذر بوش وطوني بلير من الشعب العراقي، لأنّهما شنّا الحرب بناءً لمعلومات ديبلوماسية غير صحيحة وغير مؤكّدة (؟!).
العالم كلّه وخصوصاً العالم المسيحي، سيواكب قداسة البابا فرنسيس في حلّه وترحاله، كون الزيارة البابوية الأولى وحجّ البابا إلى أرض إبراهيم تأكيد على إيمان البابا العميق بدور الكنائس الشرقية الأم، العراقية السريانية والأشورية والكلدانية، في الثبات على الإيمان والتّجذر بالأرض وتكريس صيغة العيش المشترك بين أتباع الدّيانات الثّلاث، المسيحية والإسلامية واليهودية، وتراث أبو الإيمان إبراهيم. لأنّ رسالة مسيحيّي الشرق ثابتة ومتواصلة في الإيمان بالله وتعزيز احترام الآخر والعيش معه بسلام.
إنّ الزيارة البابوية للعراق في هذا الظرف بالذات، للتأكيد على أنّ المسيحيين الشرقيين ليسوا ضيوفًا على دول الشرق الأوسط العربية، إنما هم من صلب هذه الأرض وجزء أساس من تراثه العريق. والتنكيل بهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم، جريمة تاريخية بحق دول المنطقة وقادتها وشعوبها. وغضّ الطرف عمّا ارتكبه الإرهابيون بقصد تهجيرهم، هو تعدٍّ سافر على أبسط حقوق الإنسان.
الشرق رسالة، لأنّه مهد المسيحية وحضارتها. كما أنّ لبنان رسالة للإنسانية بصيغته الفريدة، ومثال حضاري لصيغة العيش المشترك التي يجسّدها.