Site icon IMLebanon

خيبة “بيّ الكلّ الفرنسي” من إفشال مبادرته.. وإيران تُزاحم واشنطن

كتب وليد شقير في “الجمهورية”:

شهد العام 2020 أكبر تدفّق للتحرّكات الديبلوماسية والسياسية الدولية باتجاه لبنان، ليس بسبب أزمته الإقتصادية المالية الخانقة فحسب، بل بفِعل انفجار 4 آب الكارثي في المرفأ، بعدما كان البلد في شبه عزلة دولية خلال النصف الأول من السنة، جرّاء الإنكفاء العربي والغربي نسبياً، مع تأليف حكومة الرئيس حسّان دياب مطلع السنة. لكن مأساة انفجار المرفأ وأضراره الإنسانية في بلد يعاني من إفلاس دولته ومصارفه، حملت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت مرتين خلال أقلّ من شهر، لإطلاق مبادرة من “الأمّ الحنون” للمساعدة في إدارة الأزمة أو إيجاد حلول مرحلية لها.

ربما المبادرة الفرنسية كانت الوحيدة التي طُرحت لمساعدة لبنان، لكنّها هي أيضاً أُصيبت بانتكاسة بعدما أفشل تحالف “حزب الله” مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و”التيار الوطني الحر” قيام حكومة اختصاصيين برئاسة شخصية مستقلّة، هو السفير في برلين الدكتور مصطفى أديب خلال شهر أيلول، فاعتذر عن متابعة المهمّة، ثمّ عرقل تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري الذي كُلّف مكانه في 22 تشرين الأول ولم ترَ حكومته النور. لكنّ الجانب الفرنسي يصرّ على مواصلة مبادرته التي يتمسّك بها العديد من القوى السياسية، لأنّها الوحيدة الموجودة على الطاولة والتي تعد بدعم مالي للبنان. وأبقت الديبلوماسية الفرنسية بشخص مستشار الرئاسة حول الشرق الأوسط باتريك دوريل الذي زار بيروت، على تواصلها مع المسؤولين اللبنانيين، في محاولة لتذليل عقبات تشكيل الحكومة. ولم تنفع جهود ديبلوماسية بذلتها فرنسا وموسكو، بناء لتنسيق بين ماكرون والرئيس فلاديمير بوتين، وأخيراً الفاتيكان لدى طهران، كي تلعب دوراً في تليين مواقف حلفائها اللبنانيين حيال تأليف حكومة من الإختصاصيين غير الحزبيين. وباتت قناعة الأوساط السياسية اللبنانية أنّ طهران تترك ورقة الحكومة في لبنان كواحدة من أوراق التفاوض بينها وبين إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن بعد تسلّمه مهمّاته في 20 كانون الثاني المقبل، بعدما كانت التكهّنات ربطت تأليف الحكومة بنتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية في 3 تشرين الثاني. فحكومة الإختصاصيين غير الحزبيين تعتبرها طهران والحزب وسيلة لتحقيق مطلب أميركي باستبعاده عن الحكومة.

كما كثّف الصراع الأميركي ـ الإيراني في لبنان، ودور واشنطن في المفاوضات اللبنانية ـ الإسرائيلية على الحدود البحرية، زيارات المسؤولين الأميركيين، وزاحمهم الإيرانيون.

حكومة دياب التي جاءت تحت لافتة حكومة الإختصاصيين غير الحزبيين، صُنّفت بأنّها حكومة “حزب الله” أو حكومة “اللون الواحد” لاقتصار النفوذ فيها على الحزب وحليفه الرئيس عون و”التيار الحرّ”. امتنعت دول عربية وأوروبية عن تلبية طلب دياب زيارتها، بالرغم من محاولات وزير الخارجية السفير السابق للجامعة العربية في روما وباريس ناصيف حتّي، فتح كوّة في جدار المقاطعة عبر علاقاته السابقة، فراوحت الأجوبة بين الإصرار على لازمة تنفيذ الإصلاحات الضرورية، وبين اشتراط تصحيح موقف الحكم من الدول العربية، ووقف سياسة انحياز العهد الرئاسي إلى إيران بتطبيق مبدأ النأي بلبنان عن حروب المنطقة ونزاعاتها. لكن حتّي استقال مطلع شهر آب بسبب استمرار هيمنة الوزير السابق رئيس “التيار الحرّ” جبران باسيل على وزارته عبر الموالين له في دوائرها. وشملت محاولات الإنفتاح على الدول العربية زيارات قام بها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لكلّ من قطر والكويت والعراق، لم تفلح بكسر العزلة العربية، باستثناء زيارة وفد عراقي إلى بيروت، للتباحث مع وزارة الطاقة حول تزويد لبنان بحاجته من الفيول أويل لمعامل الكهرباء التي يعاني لبنان من انقطاعها منذ أكثر من 20 عاماً، وتشكّل إحدى فضائح الهدر والفساد.

حركة سفراء الدول والموفدين مطلع العام، كانت امتداداً للإهتمام الدولي بانتفاضة 17 تشرين الشعبية والشبابية في الربع الأخير من العام 2019، احتجاجاً على تدهور الوضع الإقتصادي والمالي. جذبت الإنتفاضة المجتمع الدولي الذي أضاف إلى مطالبه الإصلاحية من السلطة السياسية وجوب الإستماع إلى مطالب المحتجّين، وحماية حقّ التظاهر الذي ركّزت عليه الديبلوماسية الأميركية، إضافة إلى تغيير أسلوب الحكم القائم على الهدر والصفقات والمحاصصة.

وبالرغم من إعلان عدد من السفراء الغربيين إعطاء فرصة لحكومة دياب كي تبدأ بالإصلاحات المطلوبة، وضرورة الإتّفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج للنهوض الإقتصادي، فإنّ أياً من ذلك لم ينفّذ. ذروة الخيبة من عدم إيفاء لبنان بوعوده الإصلاحية منذ مؤتمر “سيدر” عام 2018، عبّر عنها وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، كأوّل زائر أجنبي رفيع المستوى إلى بيروت (في 22 تموز) منذ اندلاع الإحتجاجات الشعبية وتشكيل حكومة دياب. وقال لودريان الذي التقى عون ورئيسي البرلمان نبيه بري ودياب والقادة السياسيين: “أكثر ما يذهلنا هو عدم استجابة سلطات هذا البلد للأزمة الراهنة”، مشدّداً على الحاجة لـ”أفعال ملموسة طال انتظارها”، وأنّ فرنسا لن تقدّم مالاً للبنان من دون الإصلاحات، ومثلها المجتمع الدولي. واعتبر لودريان، صاحب شعار “ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم”، أنّ لبنان مهدّد بالزوال. ردّ دياب في اجتماعه معه بالقول إنّ الأخير ليس على اطّلاع على الإصلاحات التي تحقّقت، والتي يعتقد بأنّ حكومته نفّذت 97 في المئة منها. وهو الأمر الذي استهجنته باريس مثل العديد من القوى السياسية اللبنانية.

اقتصرت المساعدات العربية والدولية على إعانات طبّية لمواجهة جائحة “كورونا” التي زادت الصعوبات الإقتصادية.

وأرخى الصراع الإقليمي الدولي بظلاله على لبنان خلال السنة المنقضية، فتعاملت الولايات المتّحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ودول الخليج معه على أنّه منصّة لإيران عبر نفوذ “حزب الله”، تستخدمها لتهديد أمن دول الخليج والتدخّل في اليمن وسوريا والعراق. واصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو شنّ هجومه على دور الحزب داعياً إلى نزع سلاحه، بموازاة دعم الجيش، بينما توالت تصريحات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو عن معلومات حول قيام منشآت بدعم إيراني من أجل تعزيز الصواريخ التي بحوزة الحزب بمعدّات تضمن دقّتها.

وبالرغم من التأييد الأميركي لتحرّك ماكرون، برز تمايز بين باريس وواشنطن حيال التعامل مع “حزب الله” الذي تعاطى معه ماكرون على أنّه قوة سياسية موجودة بحكم الأمر الواقع، ومنتخبة في البرلمان، فيما لم يُخف المسؤولون الأميركيون اعتراضهم على هذا الجانب من تحرّكه، مؤكّدين أنّ الحزب إرهابي وأحد أسباب الفساد، في تصريحات لبومبيو وهيل ومساعد الوزير لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر والسفيرة دوروثي شيا التي قالت إنّ بلادها ستستمرّ في انتهاج سياسة الضغط على “حزب الله”. وأكدت أنّ “علاقة رئيس “التيار الحرّ” باسيل بـ”حزب الله” تشكّل غطاء لسلاح الحزب مقابل تغاضي “حزب الله” عن فساد باسيل”. وقال بومبيو: “على من يشكّل جزءاً من “حزب الله” أو يتناغم معه، أن يعرف أنّ هذا ليس ما يريده الشعب اللبناني، وهو خارج متطلّبات الأمن القومي”. كرّت سبحة زيارات وزراء خارجية أوروبيين وأجانب في شكل غير مسبوق، للتضامن مع البلد المنكوب الذي تدفّقت المساعدات الإغاثية عليه، وازدحمت السفن التي حملتها على الشاطئ والطائرات المحمّلة مواد غذائية وطبّية ومستشفيات ميدانية وإعمارية، من أوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وروسيا، وبعضها أرسل فرقاً ساعدت في إزالة الركام وفي الكشف على مسرح الإنفجار لجمع الوقائع، أبرزها الـ”إف.بي.آي” الأميركي، إضافة إلى الفرنسيين والروس. وكان أبرز الزوّار العرب وزير الخارجية المصري سامح شكري في 11 آب، خصوصاً أنّ القاهرة أيّدت مبادرة ماكرون السياسية بقوّة، ثمّ القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في 25 منه، والأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط. السعودية والإمارات والكويت قدّمت مساعدات وحاذرت الإتّصال بالمسؤولين. وطالب وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بتحقيق دولي “محايد وشفّاف”، ورأى “أنّ استمرار الهيمنة المدمّرة لتنظيم “حزب الله” الإرهابي يثير قلقنا جميعاً. جميعنا يعرف السوابق المؤكّدة لاستخدام هذا التنظيم للمواد المتفجّرة وتخزينها بين المدنيين في عدّة دول عربية وأوروبية والأميركتين”.

كما زاره أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، وقدّم مساعدات لإعادة إعمار مستشفيات دُمّرت، وأكّد أنّ “لبنان ليس وحيداً والكنيسة ستقف الى جانبه وتساعده على النهوض مُجدّداً والنهوض من كبوته”. وأبرز السفن التي رست في المرفأ حاملة الطوافات الفرنسية “PHA Tonnerre، والبارجة البريطانية الحربية “HMS Enterprise.

في 14 آب، لم يكد وكيل وزارة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل يحطّ في بيروت حتى وصلها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وقال إنّ “وجود البوارج الأجنبية على السواحل اللبنانية، ليس أمراً طبيعياً وهذا تهديد للشعب اللبناني ومقاومته”، وبدا أنّه يخشى من أن تستهدف اللهفة الغربية على لبنان نفوذ طهران في البلد. وإزاء مطالبة الفرقاء المعارضين للحكم بتحقيق دولي في الكارثة، أيّدته دول غربية، رأى ظريف أنّ “التحقيق يجب أن يكون لبنانياً، ويجب أن توجّهه الحكومة اللبنانية”.

أما هيل فحثّ بعد جولة في مناطق الدمار قبالة المرفأ واستماعه مثل ماكرون، إلى النشطاء من المجتمع المدني ولقاءاته مع المسؤولين الرسميين والسياسيين، القادة السياسيين على “إجراء إصلاحات هادفة ومستدامة”. استثنى من لقاءاته صديقه النائب باسيل الذي أدرج إسمه لاحقاً في 6 تشرين الثاني على لائحة العقوبات تحت قانون “ماغنتسكي” لمكافحة الفساد، ولتعاونه مع “حزب الله”، فكانت ضربة قاسية له ولعون. وعبّر هيل للمسؤولين اللبنانيين عن “الحاجة الملحّة لأن يضعوا جانباً الهموم الحزبية والمكاسب الشخصية، ويضعوا مصلحة البلد أولاً. واليوم نرى تأثيرات فشلهم في تحمّل تلك المسؤولية”.

اختتم العام على حدثين مهمّين: الأول، انطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل منتصف تشرين الثاني بحضور السفير شينكر ووساطة حكومته وبرعاية الأمم المتحدة، والتي تعثّرت بعد 4 جولات بفِعل رفع الجانبين سقف مطالبهما، على أن يستأنفها السفير الأميركي جيمس دوروشر بجولات مكوكية بينهما في العام الجديد. أمّا الثاني فهو تخصيص البابا فرنسيس لبنان برسالتين إلى البطريرك بشارة الراعي تدعو السياسيين إلى تغليب المصلحة العامة على مصالحهم، ثم تكراره ذلك مشيراً الى أهمية الإصلاح، في قداس الميلاد، وسط توقّعات بأنّ لكلامه متابعة في العام الجديد، بالتزامن مع تأييده دعوة الراعي إلى حياد لبنان.

فيما كان لبنان يتخبّط بتناقضاته الداخلية وبتعقيدات علاقاته الخارجية، وقعت مأساة انفجار مخزون نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، الذي وُصف بأنه أكبر انفجار بعد قنبلتي هيروشيما وناكازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، مخلّفاً دماراً شبه كامل للمرفأ ومقتل زهاء 209 مواطنين، وتدمير أو تضرّر زهاء 30000 شقّة ومسكن بينها 6 مستشفيات، وتشريد حوالى 60 ألف شخص في الأحياء المحيطة بالمرفأ.

استنفر المجتمع الدولي هول الكارثة الزلزالية، فكان أول المبادرين لزيارة بيروت في اليوم الثاني بعد الانفجار، في 6 آب، ماكرون، الذي أطلق منها مبادرة لإعادة إعمار المرفأ وما تهدّم، بعدما زار المناطق المتضرّرة في الجمّيزة – مار مخايل حيث لم يجرؤ المسؤولون، بسبب النقمة العارمة ضدّهم. طالبه المواطنون بالتدخّل لإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة وعدم تقديم المساعدات عبر الحكومة خشية سرقتها. وتعلّق جمهور الأحياء المنكوبة بسترته بعدما تعاطى معهم بعاطفة، فاستحوذ على لقب «بيّ الكلّ الفرنسي» بعدما كان مناصرو عون يخصّونه به. والتقى إلى كبار المسؤولين، ممثّلي الأقطاب السياسيين لحثّهم على دعم تشكيل حكومة مهمّة خلال 15 يوماً، لـ 6 أو 8 أشهر تقود الإصلاحات، من الإختصاصيين ذوي الكفاءة، فاستقالت حكومة دياب في 10 آب. استند ماكرون في طرحه إلى خريطة طريق إصلاحية من 4 صفحات، عرض صيغتها النهائية عليهم مُجدّداً خلال زيارته الثانية في 1 أيلول، فأبلغوه التزامهم بها، بعدما حذف منها تعديل قانون الإنتخاب لإجراء انتخابات نيابية مبكرة تلبية لطلب الإنتفاضة الشعبية الذي أيّدته معظم الأطراف المنتمية إلى قوى 14 آذار سابقاً. لكنّ «حزب الله» الذي قال إنه يؤيّد 90 في المئة منها اعترض على هذا البند مع «التيار الحرّ». ونظّم ماكرون، بتأييد أميركي وأوروبي وروسي، مؤتمرين في 9 آب وأواخر تشرين الثاني، شارك في الأول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لجمع مبالغ فاقت الـ 300 مليون دولار من أجل إعادة إعمار المستشفيات والمدارس وإسكان من تضرّرت منازلهم، أُنفقت عبر الأمم المتّحدة ومنظّمات المجتمع المدني غير الحكومية. لكنّ إعادة الإعمار الكاملة وخصوصاً للمرفأ، تنتظر تأليف حكومة تنفذ الإصلاحات.