كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم يأت حديث رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب عن التحقيق في إنفجار مرفأ بيروت بجديد، فبعض ما كشفه كان قد طُرح قبل وضع تقرير «FBI» في المجلس الاعلى للدفاع، الذي ناقش احتمال وجود «السارق – الحارق» المتهم الغامض في الجريمة. ألّا انّه أضاء على مصير التحقيق الذي دخل في رحاب قاعة «الخطى الضائعة» في قصر العدل. وعليه، ما الذي قاد الى هذه النظرية؟
قبل ان تنمو المناكفات حول التحقيق العدلي، ويختلط ما هو قانوني وقضائي وعدلي ونيابي على الشكل الذي ظهر، عقب إجراءات قاضي التحقيق العدلي فادي صوان الاخيرة، كان احد السيناريوهات يتحدث في وضوح عمّا اشار اليه تقرير «FBI»، الذي عاود الرئيس حسان دياب التذكير به امس الاول، وتحديداً في موضوع النقص في كميات نيترات الامونيوم المخزنة في العنبر الرقم 12 في المرفأ، بعد تعرّضها لسرقة منظّمة، امتدت طوال فترة تخزينها فيه على مدى السنوات السبع الأخيرة قبل انفجارها.
وهذا ما اشار اليه تقرير لجهاز امني فاعل، طُرح خلال الاجتماع الذي كان مخصّصاً للتحقيق في الانفجار، بعد اسبوعين على قرار إحالة الجريمة ـ النكبة الى المجلس العدلي، وقبل دقائق قليلة من استقالة الحكومة في العاشر من آب الماضي، وثلاثة اسابيع على الانفجار في الرابع منه. وهو التقرير الذي تحدث عن احتمال ان يكون السارق الذي دأب على مدى السنوات السبع الماضية على سرقة مواد الامونيوم المخزنة في اسوأ الظروف، ونقلها الى سوريا أو الى أي مكان آخر في لبنان. ولم يغفل التقرير الاعتقاد، انّ هذا السارق كان «غبياً»، ولم يكن يعلم النتائج الكارثية المترتبة على ما قام به والتي حصدها لبنان في لحظات، فأخفى نفسه ومعه مالك البضاعة ومستوردها والجهات المتورطة فيها.
إلّا انّ من الواضح، انّ ما فجّر هذه التناقضات وتشابكها، يكمن في سلسلة الإجراءات الصاعقة التي بدأها صوان وفاجأت الجميع، عندما خاطب المجلس النيابي مباشرة، مؤكّداً النية في ملاحقة من سمّاهم من المسؤولين الكبار في حينه، من دون اللجوء الى الآلية القانونية والقضائية التي كان من المفترض ان يطلب بموجبها عبر النيابة العامة التمييزية ووزيرة العدل ماري كلود نجم من المجلس عينه، رفع الحصانة عمّن يتمتع بها قبل الادّعاء على اي منهم. وهو ما اعتبره اكثر من مرجع قضائي خطأ فادحاً قد ارتُكب، وقاد الى التمادي في الادّعاء على الرئيس حسان دياب والوزراء الثلاثة السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، من دون وزراء الأشغال والعدل والمال الآخرين، الذين شملهم في كتابه الى المجلس النيابي.
ومن دون الدخول في كثير من المحطات وما رافق الإجراءات الأخيرة من تفاصيل، توقف مرجع قضائي امام مجموعة الخطوات التي تلت ادّعاء صوان، والتي ما زالت سارية المفعول، على الرغم من حجم المخالفات المرتكبة، والتي يمكن ان يوضع لها حد فاصل ببعده القانوني والقضائي في وقت لاحق لم يحن اوانه بعد. وعليه، فقد فنّد المرجع بعضاً من هذه المخالفات وما يمكن ان تؤدي اليه في حال عدم تصحيحها بما يفرضه الدستور في تعاطي السلطة التشريعية مع أي من السلطات الأخرى، وتلك القواعد المرتبطة بصلاحيات الهيئات القضائية، وصولاً الى وزارة العدل. وتوقف المرجع امام البعض منها، وأولها، تأكيد فقدان الصفة التي تسمح للوزيرين السابقين خليل وزعيتر، مخاطبة النيابة العامة التمييزية لرفع يد صوان عن القضية بسبب «الارتياب المشروع»، قبل رفع الحصانة النيابية عنهما، وانّه كان عليهما مخاطبة وزيرة العدل صاحبة الصلاحية في تعيين المحقق العدلي. وان استمر قلم النيابة العامة التمييزية بتعميم هذا الطلب على صوان وكل من له علاقة بالعملية، ولا سيما منهم وكلاء الدفاع عن المدّعين امامه، فانّ ذلك بقي من ضمن الروتين الاداري. فالقرار النهائي قبولاً او رفضاً لطلب الوزيرين السابقين ليس ملكاً لها بل لمحكمة التمييز التي ستنظر في القضية، بعد ورود اجوبة من طَاوَلتهم الإجراءات الاخيرة، قبولاً او رفضاً. وهي عملية لربما اخذت مزيداً من الوقت، في اعتبار انّ بعض المعنيين لم يتبلّغوا بعد طلب رفع اليد لبدء احتساب مهلة الأيام العشرة التي وجب تحديدها ابتداء من تاريخ تبليغ آخر المعنيين بالقضية.
وقبل ولوج المرحلة التي لم تصل اليها الإجراءات القضائية والادارية، فقد بات واضحاً من الترتيبات المتخذة، انّ لا صوان ولا نقابة المحامين بوكالتها عمّا يزيد على 1000 مدّعٍ ولا وكلاء المدّعين الآخرين أمام قاضي التحقيق العدلي، سيقبلون طلب رفع يد صوان. فـ «الارتياب المشروع»، في رأيهم، لا اساس متيناً له، وهو ينمّ عن توجّه سياسي لا قانوني، وانّ الخوف الحقيقي ان يكون الهدف منه التهويل على صوان، أو بهدف تضييع الوقت وحرف التحقيق وتغيير مجراه.
وفي أي حال، يضيف المرجع القضائي، سيعود الى محكمة التمييز وحدها الحق في قبول طلب رفع يد صوان. وفي حال العكس، سيُرفع طلبها الى وزيرة العدل لتقول كلمتها في شأن تعيين محقق عدلي جديد، وهي ستكون امام خيارين متوازيين، فإما قبولها الامر كما فعل وزير العدل شارل رزق، عندما تمّ رفع يد المحقق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري القاضي الياس عيد في ظروف مماثلة لما هو قائم اليوم، وتكليف القاضي صقر صقر خلال لحظات. كما انّه يحق لها رفض الأمر من دون ان يناقشها احد في قرارها، فتعيد القرار الى النيابة العامة التمييزية عبر المدّعي العام التمييزي بحجة قانونية صلبة، ومفادها انّها ليس عليها كوزيرة تمثل السلطة التنفيذية ان تنفّذ قراراً قضائياً، وانّ هذه الصلاحية هي ملك لمجلس الوزراء بإصدار مرسوم تعيين البديل، بناء على اقتراح مجلس القضاء الاعلى.
وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول وببساطة، ما الذي يمنع من ان تكون كل هذه الإجراءات المتخذة بوجوهها النيابية والقانونية المختلفة، وسيلة لحرف التحقيق واضاعة مزيد الوقت، في انتظار حدث ما يريده اصحاب النيات غير البريئة. فالمناكفات بين المؤسسات الدستورية والقضائية ليست عملاً غير مسبوق، فقد شهدت البلاد مثيلات له في اكثر من محطة، لكن ما هو ثابت، انّ التحقيق العدلي يعبر في هذه الفترة في اصعب واخطر المراحل التي تهدّده في شكله ومضمونه، ومعه الحقيقة المهدّدة بدخول رحاب باحة «الخطى الضائعة»، التي تحظى بأكبر قاعات قصر العدل في بيروت.