كتب جوني منير في “الجمهورية”:
كان غريباً بالنسبة للعديد من المراقبين التصريح الذي أدلى به قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الايراني حول لبنان وسوريا وغزة. وحاولت أوساط ديبلوماسية معنية استخراج الرسائل التي حملها هذا التصريح، لكنها لم تجد فيه سوى خطأ سياسي فادح أحرجَ حلفاء ايران ومنحَ في الوقت نفسه مصداقية لسياسة دونالد ترامب في الشرق الاوسط على بُعد ايام من مغادرته البيت الابيض.
وربما الرسالة الوحيدة التي يمكن استخراجها من موقف المسؤول الايراني انّ نفوذ ايران موجود بقوة، وهو راسِخ في لبنان وسوريا وغزة. وبالتالي، فهو غير خاضع لأيّ تفاوض، في وقت يتحضّر فريق الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن لتحضير ملفات التفاوض حول النووي الايراني، ولكن مع إضافة ملحقين يتعلقان بالصواريخ الايرانية البالستية وحدود نفوذ ايران في الشرق الاوسط.
لكنّ هذا الموقف الايراني ليس جديداً، ففي السابق، ومع دخول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا، صدرت مواقف ايرانية حول انها اصبحت عند شاطئ البحر الابيض المتوسط. ولاحقاً، ومع صدور نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، تحدث مسؤولون ايرانيون عن فوز حلفائها في الغالبية النيابية في لبنان. ومع اندلاع شرارة احتجاجات 17 تشرين سعى حلفاء ايران في لبنان لإيجاد بصمات خارجية تقف خلف هذه التحركات، والهدف هو الوصول في نهاية المطاف الى إسقاط نتائج الانتخابات النيابية من خلال ولادة حكومة لا تعكس توازنات المجلس النيابي.
وجاءت في مرحلة لاحقة دعوات البعض لإسقاط رئيس الجمهورية بمثابة دليل اضافي لحلفاء ايران بوجود مشروع خارجي لانتزاع السلطة من نفوذ «حزب الله».
في الواقع، عمل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وخلال زيارته النيابية الى لبنان عقب انفجار مرفأ بيروت، الى طمأنة «حزب الله» ومن خلاله ايران، وذلك من خلال الموافقة على وضع بند الاتخابات النيابية المبكرة جانباً، ذلك أنّ استطلاعات الرأي الدقيقة، التي أجرتها شركات اجنبية متخصصة، أظهرت تبدلاً واسعاً في المزاج الانتخابي اللبناني، خصوصاً على الساحتين المسيحية والسنية. وهو ما يعني انّ اي انتخابات نيابية جديدة ستؤدي الى انقلاب في موازين المجلس النيابي. وتظهر انتخابات الجامعات والنقابات حتى ولادة منحى جديد بعيد عن الطاقم الحزبي الحالي. في الواقع لا تنفي أوساط ديبلوماسية مطّلعة وجود توجّه دولي جدي في إعادة البحث في الخارطة الجيوسياسية في الشرق الاوسط وإعادة رسم حدود النفوذ الايراني فيه، وذلك على اساس التوازن بين المحاور الاقليمية الثلاث، اي محور اسرائيلي – خليجي، ومحور تركي اسلامي، ومحور ايراني.
ووفق هذه المعادلة، فإنّ هذا التوازن لا يعني السعي لإنهاء نفوذ ايران في المنطقة، ولكنه لا يعني ايضاً منحها التأثير الكامل داخل السلطة اللبنانية. وهي تدرك انّ الدفع باتجاه المزيد من الانهيار في لبنان، هدفه الوصول الى صيغة سياسية جديدة على أنقاض الصيغة التي أنتجها اتفاق الطائف، وهو ما لا يحظى بأيّ موافقة غربية.
في الواقع ليست فقط واشنطن والعواصم الاوروبية من يرفض ذلك، بل ايضاً روسيا التي تتعارض مصالحها في شرق البحر المتوسط مع منح ايران النفوذ على الشاطئ اللبناني.
وكذلك لا تبدو دمشق ضمناً مرحّبة بنفوذ ايراني كامل في لبنان، وبالطبع فإنّ الموقف الاسرائيلي ليس بحاجة الى شرح.
لذلك تبدو واشنطن، ولو من خلال باريس، متمسّكة بكسر المعادلة التي رَعت سابقاً الولادات الحكومية، أي انها متمسكة بولادة حكومية من خارج التنوع الحزبي، وهي تتسلّح بورقة الانقاذ الاقتصادي وسط انهيار مريع يكاد يخنق لبنان.
وهي في الوقت نفسه متمسكة بحصول الانتخابات النيابية في موعدها ومن دون أي تأجيل. لكنّ واشنطن تدرك انّ مرحلة التحضير للمفاوضات مع ايران ستكون صعبة وقاسية ومليئة بالرسائل النارية، إنما في النهاية فإنّ كلا الطرفين الاميركي والايراني يريدان اتفاقاً بينهما، وهو ما سيحصل في نهاية المطاف، ولو بعد مرحلة من عرض العضلات لكليهما.
وربما أزمة ترامب الفعلية انه ساهمَ، من حيث لا يدري، في إهداء خلفه جو بايدن أوراقاً ثمينة أدّت الى تعزيز موقفه التفاوضي، فيما كان هو يريد إنجاز الاتفاق مع ايران، وهو ما ردّده مراراً خلال حملته الانتخابية. لذلك، سعى، وسيسعى حتى آخر لحظات وجوده في البيت الابيض، للتخريب على فرص المفاوضات الاميركية – الايرانية، مع الاشارة الى انه كلما اقتربنا من موعد خروج ترامب من البيت الابيض كلما ازداد خطره.
وفي لبنان، سعى ايضاً فريق ترامب للتخريب على بايدن، ذلك أنّ التفاهم مع ايران في نهاية المطاف لن يلغي تفاهماً موازياً سيجري مع «حزب الله»، ولو بطريقة غير مباشرة. ومهما قيل فإنّ الاهتمام الاميركي بالعلاقة مع مدير عام الامن العام له هذا الجانب، ولو من دون الافصاح عن ذلك او الاعلان عنه. فلقد راقبت الدوائر الاميركية بدقة المفاوضات التي اجراها اللواء عباس ابراهيم، والتي أظهرت انه يحظى بعلاقة وثيقة مع قيادة «حزب الله».
ومن هنا يمكن تفسير ما صدر من تلويح مؤخراً حول عقوبات بحق اللواء ابراهيم. في الواقع كان ترامب يعمل على قطع خط التواصل غير المباشر مع «حزب الله»، والذي لا بد ان يكون ناشطاً في مرحلة ما في المستقبل القريب.
واستتباعاً، فإنّ اعادة رسم خارطة نفوذ ايران في لبنان، وبالتالي قدرة «حزب الله» داخل الدولة اللبنانية، لا بد من أن تَسبَقها تطمينات معينة. فمثلاً، تبدو واشنطن وبالتفاهم الضمني عازمة على ترسيم الحدود اللبنانية – السورية بعد إنجاز ترسيم حدود لبنان الجنوبية. وبالتالي، الامساك جيداً بكافة المعابر الحدودية، لكنّ هذا الأمر لا بد ان يسبقه تفاهم في العمق مع «حزب الله»، بحيث تتأمّن مصالحه وفي الوقت نفسه مصالح الدولة اللبنانية.
إستطراداً، إنّ قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الايراني يسعى لأن يقول مسبقاً إنّ النفوذ الايراني في لبنان غير قابل للتفاوض، وهو ما يأتي في اطار الرسائل المسبقة في مرحلة عرض العضلات التي ستبدأ بالظهور بدءاً من النصف الثاني من هذا الشهر.
لكن ثمّة مشكلة لا تقل اهمية لا بد من أخذها في عين الاعتبار، لأنها ستعكس السلوك الاميركي. ففي الداخل الاميركي صراع عنيف لم ينته مع صدور نتائج الانتخابات الرئاسية. وبخلاف كلّ من سبقوه، فإنّ ترامب يأبى الرحيل بهدوء. في الواقع هو يسعى الآن ومعه فريق المتعصبين البيض لرفع سقف المواجهة مع بايدن، لكنّ هدفه الحقيقي يكمن في سَعيه لتَزعّم الحزب الجمهوري، في ظاهرة لم تألفها الولايات المتحدة من قبل.
لذلك، ربما سارَع العديد من اعضاء الكونغرس البارزين في الحزب الجمهوري الى إعلان تأييدهم لنتائج الانتخابات الرئاسية، لكن هذا الاضطراب أنتجَ موقفاً مُقلقاً يعكس مدى حدّة الصراع الدائر، ذلك انّ بايدن سيحصل على فريق حماية جديد من فريق الخدمة السرية، بدل فريق الحماية الحالي. وقد جرى اختيار العديد من العناصر التي كانت قد خدمت مع بايدن خلال عمله كنائب للرئيس السابق باراك اوباما.
وتعتقد مصادر متابعة انّ هدف الخطوة هو الخشية من وجود عناصر موالية لترامب، وبالتالي من الممكن أن يكون ولاؤهم متأثراً بأفكار ترامب وخطاباته العنيفة. صحيح انّ خطوة تبديل عناصر الحرس السري كانت تحصل سابقاً، ولكن بشكل محدود، فيما هي تحصل اليوم بشكل شامل.
وهذا ما يدفع للتساؤل ما اذا كان التوتر في واشنطن سينعكس توتراً في السلوك الاميركي في الشرق الاوسط؟