كتب حسين طليس في موقع “الحرة”:
للبنان مطار مدني واحد في بيروت، يستخدمه كل اللبنانيون من كل المشارب والولاءات والطوائف، وللمطار مخرج واحد باتجاه بيروت ومنه تتفرع الطرق إلى المناطق. أول ما يستقبل الزائر أو العائد إلى لبنان، صور متراصفة للقيادي في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، على طول طريق المطار، زاد عددها بمناسبة الذكرى السنوية لمقتله في غارة أميركية على الحدود السورية العراقية مطلع العام 2020، إلى حد يشعر الواصل إلى بيروت وكأنه دخل أحد شوارع طهران.
على بعد بضعة كيلومترات عن طريق المطار يقع شارع سمي حديثا باسم “قاسم سليماني” ضمن نطاق بلدية الغبيري التابعة للضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله. في هذا الشارع الذي أثارت تسميته جدلا واسعا في لبنان، ينصب حزب الله اليوم فيه تمثالا لسليماني، في سياق الذكرى التي يحييها الحزب بحفاوة لا سابق ولا مثيل لها.
من بيروت إلى الجنوب، ومن غرب الجنوب إلى شرقه على امتداد الطرق الرئيسية، صور سليماني وأبو مهدي المهندس تفترشها. الأمر نفسه في محافظة البقاع، من مدينة زحلة إلى مدينة بعلبك ثم منها إلى الهرمل في أقصى شمال شرق البلاد، سليماني حاضرا متكررا في المشهد.
اتحاد بلديات “جبل عامل” جنوب لبنان افتتح معلما سياحيا عسكريا باسم “قاسم سليماني”، يستعرض فيه حزب الله قدراته العسكرية وأسلحته، ومحمية طبيعية باسمه في بلدة الطيبة قرب الحدود الجنوبية للبنان بالإضافة إلى تمثال آخر وراية ضخمة تحمل صورته في منطقة الحمامص. شارع باسم القيادي في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في بلدة علمان قرب مدينة النبطية، وليس بعيدا عنها نصب تذكاري لسليماني مجددا عند مدخل بلدة عربصاليم، كذلك الأمر بقاعا حيث أزيح الستار عن لوحة تحمل اسمي سليماني والمهندس على طريق بلدة رأس العين، وغرس شجرة باسمهما في مدينة بعلبك، وغيرها العشرات من الاحتفالات المحلية في المدن والأحياء والقرى الخاضعة لنفوذ حزب الله.
كل هذه الوقائع تسارعت على مرأى اللبنانيين في أقل من أسبوع واحد، طوق فيه حزب الله المناطق اللبنانية بصور سليماني والتماثيل والنصب التذكارية، ليستفيق اللبنانيون على عامهم الجديد محاطين بالرموز الإيرانية، ويجدوا أنفسهم في قلب صراع المحاور الدائر في المنطقة، إلى حد دفعهم للانفجار على مواقع التواصل الاجتماعي التي لجأوا إليها للتعبير عن سخطهم ورفضهم للهيمنة الإيرانية على لبنان، لاسيما وأنها تأتي على بعد أيام من تصريح للقيادي في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زاده، والتي اعتبر فيها أن غزة ولبنان خطا أماميا للمواجهة، وهو ما استدعى ردود فعل كبيرة واستنكار على المقلب اللبناني.
ما دور سليماني هذه المرة؟
يرى الصحافي اللبناني أسعد بشارة في تصريح لموقع “الحرة” أن حزب الله يعلن اليوم جهاراً ربطه للبنان بالمحور الإيراني، وكل ما كان يقال في السابق عن استقلالية قراره وأهدافه مجرد تمويه وتغرير بالرأي العام اللبناني، ويضيف: “اليوم حزب الله يسيطر على لبنان ويضعه في قلب محور إيران، وكلام القيادي في الحرس الثوري الإيراني هو الحقيقة المطلقة فإيران ترى لبنان جبهتها المتقدمة، وما هذه التصريحات إلا تثبيت وصاية على قرار لبنان عبر سيطرة حزب الله وعبر الكلام المعلن الذي لم يكن الأول ولا الأخير”.
اللبنانيون منقسمون إلى أقصى حد حول إيران وحزب الله وسلاحه
من جهته يرى القيادي في تيار المستقبل الدكتور مصطفى علوش أن “حزب الله كان يمارس ضبط النفس ومراعاة الخصوصيات اللبنانية كنوع من “التقية” في مراحل معينة، وهذا ما لم يعد قادراً عليه في المرحلة الراهنة التي يعجز فيها عن تغطية نفسه وتصرفاته، فالمطلوب منه اليوم أن يظهر هذا البلد كجزء من مشروع الممانعة الذي تقوده إيران، وبالتالي بات بحاجة لإبراز سلطته في البلد من خلال السلوكيات الرمزية كالصور والتماثيل وتسمية الشوارع”.
يتابع بشارة: “إيران تقول إن لبنان ساحة نفوذ لها ضمن مشروعها الإقليمي وهذا ما يرتد داخلياً عبر تداعي ما تبقى من الدولة اللبنانية وسط صمت السلطة الكرتونية التي تحميها إيران في لبنان، في كل مواقعها من مجلس النواب إلى الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، فهي ترعى المنظومة الفاسدة التي بدورها تحمي السلاح وتعطيه شرعية، ما وصل بلبنان إلى الحضيض. هذا أكيد سيرتد بحالة انقسامية خطيرة في الداخل، وما يجري في الأيام الماضية هو تكريس لهذه الحالة. صور قاسم سليماني على طريق المطار تقول منها إيران بشكل رمزي إن لبنان تحت وصايتها وهذا ما لن ترضى عنه باقي الفئات والمكونات اللبنانية التي باتت واعية إلى أن هيمنة إيران سبباً رئيسيا من أسباب الإنهيار المالي، وأن لبنان بات في السجن الإيراني”.
إحراق صور وحرب افتراضية
الوسوم المعترضة على هذه الممارسات تصدرت قائمة الأكثر تداولا في لبنان خلال الأيام الماضية، وانطلقت معها حملات متقابلة بين المعترضين وأنصار حزب الله، انتهكت فيها مقدسات وكرامات واستحضرت معها لغة الحرب الأهلية والخطاب الطائفي، وسرعان ما انتقلت إلى الشارع بعدما أقدم مجموعة من الشبان كردة فعل على إحراق صور سليماني في منطقة نهر الكلب شمال بيروت. كذلك حصل في منطقة بريتال الخاضعة لنفوذ حزب الله في محافظة البقاع حيث أقدم مجهولون على احراق لوحات تحمل صور سليماني والمهندس.
وفي المقابل نشر أنصار حزب الله فيديوهات لحرق صور الرئيس الشهيد بشير الجميل ووالده مؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل، كذلك فيديوهات تظهر الصاق صورة سليماني على قبضة الثورة في ساحة الشهداء وسط بيروت، وأرفقت بحملات تهديد ووعيد، الأمر الذي أعاد اللبنانيين إلى ذاكرة الحرب الأهلية وصورها ورموزها وأثار المخاوف من وقوعها مجدداً.
هذه المخاوف يضعها كل من بشارة وعلوش في إطار نوايا حزب الله، على اعتبار أنه القوى العسكرية الوحيدة القادرة على افتعال حرب أهلية وإثارة فتنة في البلاد لعدم وجود أطراف أخرى مسلحة ومجهزة للحرب. وبينما يتساءل بشارة عن مصلحة الحزب في المرحلة المقبلة بين الفوضى أو الاستقرار، يؤكد علوش أن “حزب الله اليوم بحاجة إلى شد العصب المذهبي وإثارة هذه النعرات الطائفية والسياسية من أجل ضبط ساحته الشيعية التي تفلت منه على وقع الأزمات المتلاحقة، وبالتالي يحاول من خلال ذلك أن يقول للشيعة إنه الملاذ الأخير لهم خوفاً من الشماتة والعودة إلى الماضي، وكلما استدرج البعض إلى كلام وتصرفات استفزازية يستفيد منها حزب الله في هذا الإطار”.
عجز رسمي تام
بالنسبة إلى حزب الله كل القوى الموجودة على الساحة اللبنانية ومن بينهم حلفاؤه غير قادرة على الاعتراض، وإن اعترضت فهي غير قادرة على التأثير، وفق ما يرى علوش في تصريحه لموقع “الحرة”، “حيث لا يوجد أي معالم لدولة حقيقية في البلاد ولا يوجد قوى سياسية جدية منظمة ومتحالفة قادرة على مواجهته على الأرض، وبالتالي يستطيع أن يسرح ويمرح دون أي رادع أو خوف من الدخول في جدل لأنه يعتبر مشروع التمدد الإيراني أصبح على مفترق طرق إما أن يخسر كل شيء او يحصل على تسوية معينة تتمثل في اعتراف دولي بوصايته على لبنان أو جزء منه”.
تصريح القيادي الإيراني أثار موجة ردود واسعة في لبنان لكنه لم يثر أي تحرك رسمي في وجهه، إلا تغريدة “يتيمة غامضة” لرئيس الجمهورية ميشال عون، وضعت في سياق الرد على الكلام الإيراني، قال فيها “لا شريك للبنانيين في حفظ استقلال وطنهم وسيادته على حدوده وأرضه وحرية قراره”. هذا الرد وضعه اللبنانيون في سياق مزيد من إظهار العجز الرسمي والارتهان لحزب الله.
يرى علوش أن “الرئيس عون مرهون لحزب الله، وهناك أمور كثيرة لا نعرفها بينهم تجعل من رئاسة الجمهورية في عهد عون ملكية خاصة لحزب الله وهذا أقصى ما يمكنه أن يقوله اليوم دون أن يزعج حليفه.
من جهته يعتبر النائب عن كتلة “القوات اللبنانية” وهبي قاطيشا أن هذا الرد لم يكن على نفس المستوى المطلوب، فليس مطلوبا من رئيس الجمهورية تغريده للرد على هذا الكلام وإنما موقفا وردا ومساءلة رسمية للسفير الإيراني حول هذه التصريحات عوضاً عن تصريحات “رفع العتب”، التي تأتي نتيجة ارتهان السلطة اللبنانية الرسمية ومسؤوليها للخارج والمشاريع الخارجية، بحيث يصبح الخروج منها أمرا صعباً”.
يسلم قاطيشا أن الدولة اللبنانية اليوم في يد حزب الله وحلفاؤه، في حين أن اللبنانيين منقسمين إلى أقصى حد حول إيران وحزب الله وسلاحه، ولهذا تطالب المعارضة بانتخابات مبكرة تعكس مزاج اللبنانيين والواقع القائم، لإخراج لبنان من قبضة حزب الله الذي يرى اليوم أن الإدارة الأميركية تتغير ويحاولون فرض معادلات جديدة يظهرون من خلالها نفوذهم وسيطرتهم من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن من أجل استثمارها في تحسين شروط أي مفاوضات مقبلة، ولكن إذا استمر هذا النفوذ وتوسعت هذه الهيمنة قد نجد أنفسنا أمام حرب أهلية بين اللبنانيين فقسم كبير منهم لن يرضى بالاحتلال الإيراني والهيمنة على البلاد وإلحاقه بمشاريع دولية مصادرة سيادتهم، سيصل معها لبنان إلى فوضى كبيرة.