Site icon IMLebanon

سليماني والتخصيب: سلاحا المواجهة والتفاوض

كتب محمد عبيد في صحيفة نداء الوطن:

من المؤكّد أنّ الأفلام الوثائقية والمعلومات المسرّبة والخطابات لم تكشف كامل جوانب مسيرة قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني قاسم سليماني.

غير أن ما تم كشفه يكفي للقول أن هذا الرجل الذي نجح في إنشاء ومراكمة قوة عسكرية رادعة ومترابطة على مساحة الإقليم وبما يتجاوزه لتصل الى الباكستان وأفغانستان وغيرهما، إستطاع الى جانب ذلك أن يكون حاضراً ليقود هذه القوة شخصياً على جبهات متعددة في مواجهة “داعش” و”النصرة” وما يسمى “التحالف الدولي” ويحقق إنتصارات تحفظ للمحور الذي يمثله موقعه ودوره في صياغة التوازنات الإقليمية والدولية.

لذلك وبموضوعية مطلقة، لا يجب أن يكون مستغرباً أن تعتبره قوى محور المقاومة “أيقونة إستراتيجية” وأن تتعاطى مع عملية إغتياله على أنها حدثاً كربلائياً لا يقتصر الثأر له على رد فعل في مدى زمني أو مكاني محدود، بل يرقى الى أن يكون هذا الثأر مشروعاً سياسياً أولى مهماته العمل على إخراج القوات الأميركية من غرب آسيا، أو على الأقل مرحلياً من دول محور المقاومة بما يشمل العراق.

ولذلك أيضاً سعت إيران في الذكرى السنوية الأولى لإغتيال سليماني الى تثبيت معادلة مفادها أن إسقاط أو ضعضعة القوة التي أنشأها هذا القائد الميداني من خلال إغتياله ليس سوى وهم إعترى ترامب وحلفاءه. بناءً عليه كانت “إحتفالية التحدي” التي تم تظهيرها سياسياً وإعلامياً في غير عاصمة ومن قبل مكونات القوة “السليمانية”. هذا التحدي الذي سيكون حاضراً في أي محاولة تقوم بها الإدارة الأميركية الجديدة لإستعادة قنوات التواصل مع القيادة الإيرانية مستقبلاً.

بموازاة هذه الإحتفالية، وعلى أبواب المرحلة الإنتقالية للإدارة الأميركية التي سيقودها الرئيس المنتخب جو بايدن، إنتقلت إيران من مرحلة التهديد بتجاوز مندرجات الاتفاق النووي الى القيام بخطوات تنفيذية من خلال رفع مستوى التخصيب ليصل الى 20%، وهو تطور تصعيدي كانت تحرص القيادة الإيرانية على عدم الإقتراب منه في مراحل سابقة.

وبعيداً عن النتائج الإستثمارية لهذا التخصيب على مستوى تعزيز البنى التحتية، إلا أن الإستثمار الأهم والأعمق إستراتيجياً يكمن في إفهام الإدارة الأميركية الجديدة أن العودة الى الاتفاق النووي بصيغته الموقعة لم يعد هدفاً منشوداً لدى القيادة الإيرانية، خصوصاً وأنه سبق لإيران أن دفعت ثمن الاتفاق المذكور دون أن تحصل على أي مردود فعلي ومستدام، وإنما إقتصر الأمر على فائدة ظرفية ما لبثت أن سقطت مفاعيلها مما أعاد إيران بعدها الى حصار خانق وعقوبات مؤذية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

في أي حال، لا يكفي إنطلاق عمل إدارة بايدن كي تتحرك الاتصالات في كواليس التفاوض الأميركي-الإيراني، بل سيكون على فريق هذه الإدارة المولج بالتفاوض إنتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية أوائل الصيف المقبل، والأهم التحلي بالصبر حتى إخضرار ضوء السماح للحكومة الإيرانية العتيدة بالعودة الى طاولة التفاوض من قبل المرشد السيد علي الخامنئي.

في ظل هذه الوقائع الإستراتيجية تبدو إيران مرتاحة لإمكانية إستنهاض إقتصادها إضافة الى حضورها الإيجابي المؤثر في ملفات المنطقة، لكن ماذا عن حلفائها وبالأخص منهم “حزب الله” في لبنان القوة الأكثر قدرة على التأثير في تلك الملفات إنطلاقاً من موقع هذا البلد الجيو-إستراتيجي المميز.

أظهرت التجارب السابقة التي مرت بها كافة القوى السياسية اللبنانية أن ربحاً آنياً أو مرحلياً لا يمكن أن يُركن إليه على أنه ربح مستدام يمكن البناء عليه لإستخلاص نتائج نهائية.

إستطاع “حزب الله” منذ ما يزيد عن أربع سنوات أن يكون رافعة لبناء هيكل سلطة قوامها دعم وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية وتباعاً وبناءً على ما سُمي التسوية الرئاسية إستعادة سعد الحريري في رئاسة الحكومة، الى جانب إعادة إنتاج نبيه بري في رئاسة المجلس النيابي.

وكان يأمل الحزب أن يتحول هذا الهيكل الى بنيان مرصوص من خلال تحصينه بالعمل على تعزيز دور المؤسسات وتحسين الأداء الحكومي والتشريعي والأهم لجم النَهَم المزمن للسطو على مقدرات الدولة والناس لدى بعض الحلفاء والخصوم والجموح عند الوافدين الجدد للمشاركة في عملية السطو.

غير أن تمنيات الحزب لم تتطابق مع واقع وحسابات الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء، فالنهمون لا يشبعون ولا يريدون أن يشبعوا، وكان حتمياً أن يتحرك الشارع في 17 تشرين الأول من العام الماضي أو في أي تاريخ آخر سابق أو مقبل، في حين كانت المفاجأة أن يرى الحزب في هذا التحرك إستهدافاً حصرياً له.

من حق الحزب أن يتوجس من الكمائن التي يمكن أن تُنصب له من خلال أي تحرك شعبي مفاجئ. في الوقت ذاته كان من واجبه تجاه الناس وهو الذي وعدها بمكافحة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة والمهربة أن يفي بوعده، وهو الذي يعلم أكثر من غيره الموبقات التي إرتكبتها هذه المنظومة بحق لبنان واللبنانيين، لأن ذلك كان سيوفر على الناس الطيبين المستضعفين من قبل هذه السلطة النزول الى الشارع وتحمل تبعات التجاذب السياسي الذي تَبِعَ التحرك المذكور والذي كان الناس وحدهم ضحيته، وكان سيجنب نفسه إتهامات بعضها محق يتصل بقناعة تولدت عند الكثير من الناس حول تصدي الحزب لهم لمنعهم من الوصول الى إسقاط تلك المنظومة الفاسدة، وبعضها الآخر مفبرك كان قائماً قبل التحرك في 17 تشرين أول الفائت وإستمر بعده وما زال لإستهداف الحزب بمعناه المقاوم وتشويه صورته من خلال ماكينة دعاية سياسية محترفة تعمل على حرف بوصلة المسؤولية عن إنهيار الوضع الاقتصادي-المالي عن منظومة السلطة الفاسدة، وتحميلها للحزب على خلفية تحالفاته الإقليمية وبالتحديد مع إيران وإنعكاسات صراع طهران مع أخصامها في واشنطن وحلفائها في كيان العدو الإسرائيلي وبعض عواصم الخليج على هذا الوضع.

لم يعد يكفي العنوان الإستراتيجي المتعلق بالمقاومة أو المرتبط بالإصطفاف الإقليمي وحده مادة لتحصين الدولة والوطن، خصوصاً وأن هذا العنوان صار اليوم مادة خلاف وسجال حاد بين اللبنانيين على إختلاف مواقعهم وأهدافهم. ولم يعد ممكناً الهروب من إستحقاقات داخلية إقتصادية و”دولتية” ضاغطة. إنما التحدي الأكبر الذي يواجهه “حزب الله” الآن هو في قدرته على قيادة الشيعة ليكونوا رافعة إيجابية لإعادة بناء الدولة المأزومة وإنقاذ اللبنانيين من مصيرهم المعيشي البائس، كما قادهم سابقاً ليكونوا قوة تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عنه في وجه العدوان العام 2006 وأيضاً حمايته من تمدد المجموعات الإرهابية على حدوده وفي داخله وبالتالي تحصين وحدته الداخلية.

لم تكن المشكلة بالنسبة للكثير من اللبنانيين في التحالف مع إيران كقوة إقليمية عظمى ساهمت في صنع إنتصارات لبنان على أعدائه، إنما المعضلة هي في كيفية صَهر هذه الإنتصارات لمصلحة بناء الدولة وتحرير اللبناني من منظومة الفساد التي قضت على واقعه ومستقبله، بحيث يكون لبنان قادراً على الحضور على طاولة الحلول أو التسويات من موقع القوي المتماسك.

فهل يجرؤ “حزب الله” على التصدي لهذه المُعضلة ؟