الوضع في المنطقة الى مزيد من «انقشاع الرؤية» وانحسار «الضبابية»، بعدما أدت التطورات الأميركية الى تغيير مسار الأمور في المنطقة. فما كان من تقديرات ومخاوف بأن يُقدم دونالد ترامب في أيامه الأخيرة على تفجير «مفاجأة ما» في المنطقة تأخذ شكل عمل عسكري أو أمني ضد إيران وحلفائها.. سقط ولم يعد قائما بعدما جاءت المفاجأة من الداخل الأميركي وأدت الى تعطيل ترامب وإخراجه عمليا من البيت الأبيض قبل خروجه الرسمي في 20 الجاري، فقد انطلقت «حقبة بايدن» في منطقة الشرق الأوسط التي وقعت تحت تأثير المرحلة الانتقالية الأميركية وبانتظار إعادة صياغة السياسة والخيارات الخارجية للإدارة الجديدة، بدءا من إيران والاتفاق النووي، وبعدما بات في حكم المؤكد أن بايدن في صدد «سياسة شرق أوسطية خاصة به»، وهو لن يبدأ من النقطة التي انتهى ترامب ولا يمكنه أن يبدأ من النقطة التي انتهى إليها أوباما.
الوضع في لبنان الى مزيد من التعقيد والضبابية والرؤية السيئة. كل شيء يوحي بأن أزمة الحكومة هي أزمة مفتوحة وطويلة، ولا مؤشرات الى انفراجات قريبة: المبادرة الفرنسية توصف بأنها مجمّدة ولكنها عمليا منتهية، ما يؤدي الى انكفاء الفرنسيين عن زيارة لبنان والى هبوط الملف اللبناني على لائحة أولوياتهم، وهم يشاهدون بأم العين كيف تم تجاوز المبادرة الفرنسية حكوميا، وكيف تحوّلت حكومة الاختصاصيين والإصلاحات لـ 6 أشهر الى مشروع حكومة تكنو- سياسية لسنتين ولإدارة استحقاقات سياسية ودستورية مفصلية.
«وساطة بكركي» للتقريب بين الحريري وعون لم تنجح في ردم الهوّة المتسعة وفي جمع الرجلين في لقاء «مصالحة شخصية»، وبالكاد توصلت الى إقامة هدنة الأعياد.. وفي حين لا يملك الراعي إلا سلاح المناشدة والتحريض الإيجابي للطرفين المعنيين مباشرة بتأليف الحكومة على الالتقاء والتنازلات المتبادلة وإهمال المصالح الشخصية، فإن حزب الله لا يملك حتى الآن رغبة التدخل وممارسة ضغوط في أي اتجاه من الاتجاهين: هو داعم للرئيس ميشال عون في معركة التأليف بعدما أحجم عن مجاراته في معركة التكليف، وهو معني بألا يخرج عون من معركة الحكومة خاسرا ومهزوما بعدما وضع الحزب ذلك في سياق خطة تطويقه وتفكيك منظومته السياسية بضرب وإضعاف ومحاصرة حلفائه.. وأيضا لا يريد الحزب ممارسة ضغوط على الحريري حتى لا يدفعه الى الاعتذار والانسحاب في ظل وضع بالغ الدقة والحساسية، لا يتوافر فيه بديل عن الحريري، والبديل سيكون الفراغ الحكومي وتسريع وتيرة الانهيار.. ويبقى من الأفضل والأنسب الاستمرار في الستاتيكو الحكومي الحالي: رئيس «تصريف الأعمال» مع حكومة لا تجتمع ويُستعاض عنها بـ «مجلس الدفاع الأعلى»، ورئيس مكلّف «لا يشكّل ولا يعتذر».
الرئيس سعد الحريري أوقف زياراته الى قصر بعبدا، واعتبر أنه فعل أقصى وأفضل ما يمكنه وقدّم التشكيلة الحكومية التي يراها الأفضل والأنسب وفق المواصفات الفرنسية.. الحريري أطفأ محركاته في الداخل و«أدارها» في الخارج عبر حركة اتصالات غير واضحة المعالم والنتائج. فقد تأكد أن إقامة الحريري في الإمارات كانت لتمضية إجازة عائلية من دون أن تتخللها لقاءات سياسية، أما المفاجأة أنه أطل من تركيا في لقاء خاص ودي مع الرئيس رجب طيب أردوغان دام ساعتين وتخلله غداء عمل. هذه الزيارة في شكلها وتوقيتها كافية لإطلاق مجموعة من التساؤلات و«الشبهات»، لمجرد أن الحريري «لجأ» الى تركيا، الدولة التي تقف على خط تماس متوتر إقليمي. ولا يخفف من وقع هذه «النقلة الحريرية» ما بدأ من خفض توتر بين فرنسا وتركيا.
في هذا الوقت، يطل النائب جبران باسيل خارجا من «الحجر السياسي» الذي وُضع فيه، ليدلي بدلوه في موضوع الحكومة وليخلط الأوراق من جديد ويعيد عملية تشكيل الحكومة الى نقطة الصفر وما دون الصفر.. ففي اطلالة اعتُبرت الأكثر تماسكا ووضوحا منذ العقوبات الأميركية. ذهب باسيل بعيدا في تفنيد أزمة الحكومة وتشعباتها وعناصرها الإقليمية والداخلية.. ربط باسيل الملف اللبناني بكل ما يجري في المنطقة والعالم، معتبرا أننا أمام سنة متغيّرات كبيرة في لبنان والمنطقة، وأن السياسة الأميركية ستشهد تغييرات كبيرة ومؤثرة على لبنان وعلى دور فرنسا فيه، وأن هذه السنة هي سنة انتخابات في سورية وإيران وإسرائيل، مراهنا على سياسة بايدن ونهجه القائم على الحوار والانفتاح وليس على الحصار والعقوبات.
طرح باسيل مسألة النظام السياسي معددا مقترحات ومشاريع قوانين تتعلق بصلاحيات ومهل، ومقترحا الدعوة الى مؤتمر وطني للحوار ينطلق من تطبيق وتطوير الطائف (اللامركزية الإدارية الموسّعة ومجلس الشيوخ والدولة المدنية).. كشف السبب الذي يجعله متمسكا بالحكومة المقبلة والسيطرة عليها، إذ يراها حكومة الملفات الاستراتيجية والاستحقاقات المصيرية، وليس فقط حكومة «مهمة» ينحصر عملها في الاقتصاد والإصلاحات وإعمار مرفأ بيروت. حاول باسيل تعزيز ثقة التيار الوطني الحر بنفسه وتهدئة الضجة والانتقادات حول كلفة الاستمرار في التحالف مع حزب الله، عبر إشارته الى تفاهم ثنائي على تطوير وإعادة مناقشة تفاهم مار مخايل. كما حاول شد العصب المسيحي من حوله بالسؤال الذي توجّه به للبطريرك الراعي ولمن يمثله التيار: هل تريدون أن أعود بالسياسة لما قبل الـ 2005؟! وهل نذكركم بأن هناك غازي كنعان لبناني وقوانينه الانتخابية حاضرة، وهناك من يقوم بتأليف حكومة تعيد منظومة الـ 90 ـ 2005، لتمسك بالكامل بمفاصل المال والاقتصاد والأمن والبقاء وطردنا خارجا؟!
الأهم من ذلك أن باسيل فجّر أزمة الثقة بشخص سعد الحريري وسياسته، وقال بالفم الملآن: «إننا لا نأتمن الرئيس المكلّف سعد الحريري وحده على الإصلاح، ونحمّل نهجه السياسي مسؤولية السياسة الاقتصادية والمالية»، منتقدا طريقة تشكيله للحكومة والشروط التي وضعها، ومن أبرزها: تشكيل حكومة اختصاصيين، سائلا: ما اختصاص الرئيس المكلّف؟ كما سأل عن الاختصاص في جمع حقيبتين مثل الخارجية والزراعة مثلا بعهدة وزير واحد؟ معتبرا أن الإصرار على حكومة من 18 وزيرا يهدف لعزل مكوّنات، مثل طلال إرسلان. وأشار باسيل إلى أنه في الحقائب تحدثوا عن مداورة، فتمسك الشيعة عن غير حق بالمالية، فقام وطبق المداورة على كل الحقائب ما عدا المالية، يعني أنه ثبت المالية للشيعة. ويتهم التيار الوطني الحر الحريري بأنه أجرى مشاورات مع أفرقاء لبنانيين حول تشكيل الحكومة، واستثنى منها التيار، كما نفذ مطالب بعض الأفرقاء مثل الشيعة وسواهم، بينما أحجم عن تلبية مطالب عون خصوصا لتوسيع عدد وزراء الحكومة.
هذا الهجوم على الحريري لا يخفف من وقعه «الانتقاد الناعم» الذي وجّهه باسيل لحليفه حزب الله، مشددا على رفضه لأن يكون «السلاح المقاوم» لخدمة أي مشروع غير حماية لبنان، ورافضا اتهام حزب الله بأنه السبب الوحيد لسقوط الدولة.