كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
ثمة فرضية في علم النفس تشير إلى أنّ حالة الإنكار تقود صاحبها إلى حالة من اثنتين: إما انفصام الشخصيّة، وإما الاضطراب الثنائي القطب. وفي الحالتين تبقى احتمالية الانتحار عالية إلى درجات مخيفة. هناك الكثير من الأسباب للتيقن بأنّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لا يعاني من هذه الأعراض على المستوى الشخصي، لكنه بلغ مستوى متقدماً فيها على المستوى السياسي، وهو ما أمكن تشخيصه خلال كلمته المتلفزة الأخيرة.
خرج جبران باسيل على اللبنانيين يوم الأحد الماضي ليكشف عن المرض السياسي الذي بدأ يتفاقم لديه منذ السابع عشر من تشرين الأول 2019، بما يحمله من نقطة مفصلية في المسيرة السياسية لـ»صهر العهد»، أو بالأصح في طموحاته الرئاسية، التي أخذت فرصها الواقعية تتلاشى على ايقاع الغضب الشعبي المتفاقم والأزمات السياسية والاقتصادية التي ما زالت تسير في منحاها التصاعدي، والتي يتضح في كل محطة أنّ «العهد» يتحمّل القسط الأوفر منها، بخلاف ما تحاول الماكينة الإعلامية لتياره البرتقالي الإيحاء بعكسه.
وإذا كانت الفرص الرئاسية لجبران باسيل قد نضبت تدريجياً في الداخل، فإنّها نفدت كلياً في الخارج، منذ اللحظة التي بات فيها «صهر العهد» مدرجاً على لائحة العقوبات الأميركية، وهو دفع بأزمته النفسية سياسياً إلى تلك المرحلة المتقدمة التي شهدناها بالأمس.
من بين أعراض تلك الحالة، هو انّ جبران باسيل بات رهانه منصّباً على أوهام التغيير المحتمل في السياسة الأميركية تجاه لبنان في عهد جو بايدن، متجاهلاً حقيقة أنّ لبنان – وبطبيعة الحال جبران باسيل نفسه – لن يكون في أفضل الأحوال، إلّا نقطة مجهرية في السياسات الأميركية التي ستصبّ قبل أي شيء آخر على معالجة تركة دونالد ترامب الداخلية، والتي كشفت عورة النظام السياسي في اميركا يوم اقتحام الكابيتول هيل، في حين أنّ السياسة الخارجية ستكون منصّبة على قضايا كبرى، سيتأثر بها لبنان بالتبعية وليس بالمباشر.
من المؤكّد أنّ باسيل يدرك ما سبق – إذا سلّمنا جدلاً بأنّه ما زال قادراً على التفكير بمنطق – لكنه يتعمّد تجاهله، ما يعني أنّ الرهان على التغيير «البايديني» هو مجرّد تفاؤل واهم، يحاول باسيل ان يوحي من خلاله بأنّ أوراقه الخارجية لم تحترق بالكامل، وبالتالي المناورة إلى أقصى حدّ لفرض الوجهة العونية، بمنحاها «المسيحي» الصرف، على الحياة السياسية العونية.
على هذا الأساس، يمكن اعتبار كل ما قاله باسيل في خانة استنهاض لشعبية متهاوية منذ السابع عشر من تشرين الأول 2019، عبر اللعب على أكثر الأوتار السياسية حساسية في الشارع المسيحي، تحت عناوين مختلفة على شاكلة صلاحيات رئيس الجمهورية وحقوق المسيحيين… إلى آخر تلك المسميات التي تتناقض مع شعارات «التيار البرتقالي» حول مدنية الدولة.
بهذا المعنى، فإنّ المواقف الأخيرة لباسيل تتجاوز الملف الحكومي، وإن كان الملف نفسه هو واجهة لمغامرات سياسية أوسع، لم يخف رئيس التيار البرتقالي بعض ملامحها، أو أنّه تعمّد بالفعل اظهارها.
على هذا الأساس يمكن اعتبار الملف الحكومي هو نقطة الارتكاز التي انطلق منها باسيل لإظهار قدرته على التعطيل، وهو ما يفسّر الهجوم العنيف الذي شنّه على سعد الحريري، والذي تردّد صداه في التسريب التلفزيوني لحوار رئيس الجمهورية ورئيس حكومة تصريف الأعمال، والذي اختزلته عبارة «ما في حكومة».
بهذا المعنى حسم باسيل وجهة «العهد» الحكومية، القائلة بأنّ الحريري لن تطأ قدماه السرايا الحكومية إلّا بشروط رئيس الجمهورية وصهره، وأنّ من دون هذه الشروط لن تكون هناك حكومة في لبنان، ولو انهارت البلاد تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتفشي الجنوني لفيروس كورونا وما بينهما من أزمات.
ما يؤكّد ذلك، هو انّ باسيل نفذ قفزة في الهواء فوق المبادرة الفرنسية نفسها، التي مثلت فرصة التوافق الوحيدة سياسياً، حين أوحى بسعيه إلى تشكيل حكومة سياسية بدلاً من حكومة اختصاصيين، ووفق الشروط السياسية المنتهية الصلاحية، التي طالما رفعها العونيون في تشكيل الحكومات، ولا سيما الثلث المعطل وتسمية الوزراء جميعاً والإصرار على الحقائب الوزارية.
هذا ما يعيد الى الذاكرة معادلة طرحها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في أول زيارة له إلى لبنان بعد انفجار الرابع من آب، حين خيّر القوى السياسية اللبنانية بين الحوار (المبادرة الفرنسية) والعقد السياسي الجديد.
ومن الواضح أنّ باسيل بمواقفه الأخيرة قرّر وضع خصوم الحكم، أمام المعادلة ذاتها، بما ينسجم مع طموحاته الرئاسية، فإما حكومة بالشروط العونية يمكن أن تعوّمه سياسياً، وبطبيعة الحال مسيحياً، وإما المضي قدماً نحو العقد السياسي الجديد، الذي يتماهى، وفق الرؤية الباسيلية بنسختها المسيحية، مع مغامرات جرّت الخراب إلى البلاد.
لهذا قرّر باسيل القفز فوق الملف الحكومي وتوجيه البوصلة نحو ازمة الحكم والنظام. ففي بداية خطابه، كما في خلاصته، قال باسيل إنّ «نظامنا السياسي ليس مقدّساً ونستطيع ان نطوّره»، وعاد وكرّر أنّ «نظامنا فشل ويحتاج الى الاصلاح، يجب ان تكون لدينا الجرأة لمقاربة هذا الموضوع على البارد، ولا ننتظر لتحمى الأمور وتقع المشاكل ويقع الحل على السخن».
ما لم يقله باسيل صراحة في هذا الإطار يمكن تلمّسه في خطاب العديد من مسؤولي وكوادر «التيار الوطني الحر»، وحتى ضمن قاعدته الحزبية، فعلى قاعدة «خذوا اسرار كبارهم من صغارهم» يتبارى العونيون اليوم في الحديث عن دور النظام الحالي في تهميش المسيحيين، لا بل أنّ بعضهم يتحدث صراحة عن تحالف سنّي – شيعي ضدّ «العهد (المسيحي) القوي»، وهو خطاب ليس بجديد، وإن تمظهر بشكل أكثر فجاجة خلال الأسابيع الماضية. فمن يراقب ديناميات الشارع العوني لا يحتاج إلى جهد كبير ليدرك أنّ مواقف باسيل الاخيرة ربما تجد صدى لدى شريحة واسعة في التيار البرتقالي، لا سيما اولئك الذين ابتعدوا عنه منذ وثيقة التفاهم مع «حزب الله»، التي ألمح باسيل بشكل موارب بأنّ صلاحية نسخة العام 2006 باتت منتهية.
طروحات باسيل سقطت على المشهد الداخلي، تلقفتها الصالونات السياسية على اختلافها بحذر وبعلامات استفهام كبرى حول توقيتها ومضمونها، وهل ثمة قناعة مسبقة من طارحها بأنّها قابلة للتحقيق؟ واي عقد سياسي جدّي، واي دولة مدنية يدعو اليها، في وقت يدرك القاصي والداني أنّ الوصول اليها بالظروف الحالية أكثر من مستحيل؟… وإذا كانت القوى السياسية اللبنانية عاجزة عن الاتفاق على وزير او وزارة او شكل حكومة… فما الحال حين يُطرح العقد السياسي الجديد، اللهم إلّا اذا كان المطلوب حرب اهلية جديدة تنتج طائفاً جديداً على انقاض بلد مدمّر!