كتب علي نور الدين في “الجمهورية”:
في لبنان التاريخ يعيد نفسه دوماً…
اليوم يعيش البلد إرهاصات تكاد تكون شبيهة في المضمون مع تلك التي سبقت الحرب المشؤومة بين أبناء الوطن الواحد، مع إختلاف في المسميات والأدوات والأدوار.
في سبعينيات القرن الماضي، استشعر الإمام السيد موسى الصدر خطورة الحرب على مشروع بناء الدولة، فحاول جاهداً وقف الفتنة الأهلية، ومن هنا جاء إعتراضه على شعار “عزل الكتائب”، الذي رأى فيه عزلاً للمسيحيين، وتصدّى عبر اعتصامه في مسجد الصفا لمشروع الحرب، مع إعتباره أنّ سعي “الحركة الوطنية” لتغيير النظام السياسي في ظلّ الفتنة الأهلية، هو في غير مكانه.
وفي الواقع الراهن، على مدى 15 عاماً منذ الجريمة الزلزال المتمثلة بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كان رئيس مجلس النواب نبيه بري ينهج السبيل نفسه، منذ طاولة الحوار الوطني في العام 2006، إلى التشاور الوطني، إثر حرب تموز مروراً بكل المراحل التي تلت الحرب، ومن ضمنها إتفاق الدوحة وصولاً إلى التسوية الرئاسية وإنتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
في تلك الحقبة المفصلية من تاريخ لبنان، كانت عين التينة مجمّعاً لحوار لا يتوقف، يجمع الأضداد في السياسة، من حوار “حزب الله-المستقبل” إلى المصالحة الدرزية – الدرزية وغيرها.
وبناءً على ما تقدّم، طوّر الرئيس بري البناء الفكري في نظرية الإمام موسى الصدر، ورسم خارطة طريق لمعالجة الوضع اللبناني، تعتمد على مبادئ ثلاثة: الحوار لمعالجة أي خلاف، الوحدة الوطنية، العدالة الإجتماعية .
ورغم أنّ رئيس المجلس و”كتلة التنمية والتحرير” إختارا الورقة البيضاء في الإنتخابات الرئاسية، إلّا أنّهما لم يعطّلا جلسة الإنتخاب، فأكملا النصاب مع أنّ الرئيس بري يملك دستورياً مفتاح الدعوة إليها في الأصل.
حينها غلّب بري المصلحة الوطنية وترجم مبدأ الوحدة بالدعوة إلى الجلسة، مع إحتفاظه بحقه الديمقراطي في التصويت، وكانت غالبية القوى توصلت إلى تفاهمات مع “التيار الوطني الحر”، تضمن وصول عون إلى بعبدا.
بعدها لم يوفّر العهد ورئيسه وتياره فرصة إلّا وهاجم فيها رئيس المجلس، حتى أنّ الرئيس عون ذكر بعد مرور عام على إنتخابه، أنّ “مجلس النواب غير شرعي” رغم أنّ المجلس الممدّد له نفسه هو من إنتخب عون وأعطاه الشرعية للدخول إلى القصر الجمهوري.
وزادت حدّة التحريض ضدّ رئيس المجلس قبيل الإنتخابات النيابية في العام 2018 من قِبل “التيار الوطني الحر”، ومع ذلك خرج منها منتصراً، ومدّ يده مجدداً للجميع بمن فيهم التيار، الذي كان يعيش مرحلة تحلّل من كل التسويات والإتفاقات التي أبرمها قبيل إنتخاب عون مع بيت الوسط ومعراب .
وقبيل إنفجار الشارع في 17 تشرين من العام 2019، كان رئيس المجلس يشهر مبدأ آخر هو العدالة الإجتماعية، إستشرف الرئيس بري حينها وضعاً إقتصادياً صعباً يعيشه لبنان، وساعد العهد في نجاح مؤتمر بعبدا الإقتصادي، حتى أنّه تولّى شخصياً توجيه الدعوات إلى المشاركين من رؤساء أحزاب وكتل نيابية.
بعدها بيوم واحد وقف أمام حشود حركة “أمل” في الذكرى الـ41 لتغييب الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه في مدينة النبطية، ودعا الى “إعلان حالة طوارئ إقتصادية، يكون برنامجها تنفيذ ما اتُفق عليه في اجتماع طاولة الحوار الاقتصادي”، والى “تنفيذ القوانين الصادرة عن مجلس النواب، والتي تجاوزت الـ50 قانوناً في شتى الحقول الضرورية، والتي تلبّي الكثير من متطلبات الشعب اللبناني حالياً، من مشاريع كهربائية وبيئية وبخاصة منع الفساد”.
وإنفجر الشارع… تصدّع العهد بإستقالة الحكومة، وتمّ تحميله مع “التيار الوطني الحر” ورئيسه النائب جبران باسيل مسؤولية ما حصل… وخرج باسيل إثر ذلك خالي الوفاض، إلّا من غضب الناس، وبات معزولاً بنسبة كبيرة في البيئة السياسية وفي الشارع على حّد سواء، فمدّت عين التينة اليد له مجدداً رافضة عزل أي مكون.
اليوم يعود العهد ومعه التيار إلى عرقلة نفسه، ولكن عبر أخطر سياسة… سياسة “الإنعزال الذاتي” وعن سابق تصور وتصميم، من خلال تطبيق نظرية “أنا ومن بعدي الطوفان”.
هناك من يريد أن “يحارب” جميع الناس….
يريد أن يجعل الجميع يخسر كما خسر هو…
يريد أن يستخدم كل ما “ملكت أيمانه” لتهشيم كل القوى الأخرى، فيمعن في محاصرة نفسه…
يريد أن يقنع الناس بأنّه صاحب الكف النظيف، ليس بإثباتات بل بتركيب ملفات ومحاولات تطويع السلطات القضائية لتنفيذ ذلك….
يريد أن يقول “أنا الدولة والدولة أنا” فيعطل تشكيل حكومة يكون له فيها الثلث الضامن منفرداً من دون آخر من يتحمّله من حلفائه.
بإختصار… هناك من يريد أن يعزل نفسه من دون أن يعرف تداعيات ذلك على البلاد والعباد.
العهد يُضرب من بيت أبيه… هي الإنعزالية المدمّرة للوطن بنسخة منقحة ومزيدة، وبقرار ذاتي…ولكن إطمئنوا… لن يرضى أحد بها… إسألوا نبيه بري.