كتب جوني منير في “الجمهورية”:
بعد الأحداث التي عصفت في واشنطن مع اقتحام أنصار الرئيس الاميركي دونالد ترامب مبنى «الكابيتول هيل»، طُرِحت أسئلة عدة حول احتمال تكرار الفوضى يوم تسلّم الرئيس المنتخب جو بايدن مقاليد السلطة رسمياً، ومقدار الخطر الذي يتهدّد آليّة العمل الديموقراطي في الولايات المتحدة الاميركية، وعمق الانقسام الحاصل في المجتمع الاميركي وما اذا كان هنالك من إمكانية لمعالجته. ومن بين هذه الاسئلة برزَ سؤال يهمّ الشرق الاوسط تحديداً، ويتمحور حول ما اذا كانت هذه الاحداث ستؤمن ملفات ادارة بايدن والمتعلقة بالسياسة الخارجية، وأهمها على الاطلاق ملفّي الصين وإيران.
ولكن، وخلافاً للصورة البشعة نتيجة اقتحام مبنى الكونغرس الاميركي، الّا انّ مصادر ديبلوماسية اميركية لا تبدو قلقة حيال انتقال كامل وطبيعي للسلطة بعد أقل من أسبوع.
في الواقع باشرت المؤسسات والاجهزة الفدرالية إعادة تنظيم الوضع وفتح تحقيقات واسعة حول الخروقات الامنية التي سمحت بحصول عملية الاقتحام، خصوصاً على مستوى جهاز الشرطة في الكونغرس وفي العاصمة الاميركية، اضافة الى تحديد المسؤوليات حول وجود غَضّ نظر متعمّد حالّ دون وصول الامدادات العسكرية في الوقت المناسب.
في الواقع، تستعد الادارة المقبلة للتأقلم مع مرحلة محاكمة ترامب والاجراءات التي لا بد من ان تواكب هذه الخطوة، خصوصاً أنّ اركان الحزب الجمهوري يستعدون بدورهم لطرد ترامب من الحزب، ولكن بعد ان تحمّله السلطات القضائية المسؤولية رسمياً حيال ما حصل.
وعدا عن انّ اركان الحزب الجمهوري كانوا منزعجين من اندفاع ترامب لاختصار الحزب بشخصه على طريقة احزاب بلدان العالم الثالث حيث الشعار هو «الحزب هو أنا وأنا هو الحزب»، الّا أنّ ما بدأ يتسرّب عن الدور الذي اضطلع به ترامب زادَ من منسوب غضب هؤلاء.
وفي التحقيقات الجارية مثلاً، الاتصال الذي أجراه ترامب بنائبه صباح ذلك اليوم للضغط عليه بالتهويل وربما أكثر لكي لا يحضر جلسة التصديق على فوز بايدن. وبعدها ببضع ساعات، ومع اقتحام مبنى الكونغرس، صرخت مجموعة محدّدة من أنصار ترامب ضد مايك بنس، مُطالِبة بشنقه، وشَرعت في البحث عنه.
إذاً، امام ادارة بايدن ورشة داخلية هائلة، وهو ما يستوجب التوافق مع الجمهوريين حول الخطوط العريضة لسياسة إعادة إصلاح الوضع الداخلي، الى جانب اطلاق يد المؤسسات الامنية. وقد يسعى بايدن الى ضَمّ وجه او ربما اكثر من الحزب الجمهوري الى ادارته المقبلة.
لكنّ الورشة الداخلية لن تقف حائلاً امام الشروع في الملفات الخارجية. في الواقع، إنّ بايدن هو اول رئيس اميركي يعرف اكثر من اي رئيس سَبَقه عن السياسة الخارجية منذ ريتشارد نيكسون.
وإنّ التعيينات التي يجريها في المواقع الحساسة لإدارته تُنبئ بذلك، وآخرها كانت في اختيار وليم بيرنز ليكون اول ديبلوماسي يتولى رئاسة جهاز الـ CIA، وبيرنز كسب شهرته كخبير في ملفات الشرق الاوسط، وهو شارك ايضاً في الاتصالات مع ايران تحضيراً لإبرام الاتفاق النووي. وبالتالي، يصبح السؤال الأدق هو: الى أيّ مدى يريد بايدن ان تكون له بصمة في سياسته الخارجية، وبأي أسلوب سينجز ذلك؟
ربما لذلك اندفع وزير الخارجية مايك بومبيو، نيابة عن ادارة ترامب، في اعلان عقوبات جديدة. ففي غضون 48 ساعة وعلى بُعد أقل من أسبوعين على طَي صفحة ولاية ترامب، أعلن بومبيو «الحوثيين» جماعة إرهابية، ووصف كوبا بأنها «دولة راعية للارهاب»، وخاطَر باستفزاز الصين بسبب رفع القيود المفروضة على التفاعلات بين الولايات المتحدة وتايوان، واتهم ايران بإيواء «القاعدة»، وأخيراً وليس آخراً تفاهَم مع رئيس «الموساد» الاسرائيلي على ضربات جوية لمواقع حليفة لإيران شمال شرق سوريا.
التفسير الوحيد لخطوات بومبيو المتلاحقة هو أنّ ادارة ترامب تحاول تقييد يدي الرئيس المنتخب، خصوصاً في اتجاه ايران والصين.
وفي الواقع إنّ الصين تمثّل التهديد الاكبر لواشنطن، ويأتي الملف الايراني، على أهميته، متداخلاً مع الملف الصيني. خلال العام الماضي عاقبت وزارة الخزانة الاميركية مرتين شركات صينية لمزاولتها أعمالاً تجارية مع ايران. وتعتمد الصين على استيراد النفط من الشرق الاوسط. لكن، وفي العام الماضي، تراجع استيراد الصين للنفط الايراني الى 3 ملايين طن فقط، أي بانخفاض نحو 70 % عن عام 2019.
لذلك، يرى بعض الخبراء الاميركيين انّ المصلحة الصينية قد تكون عاملاً مساعداً للجهود الاميركية تجاه ايران. فالمصلحة الصينية تعتبر انّ ضمان حرية الملاحة في الخليج هي مسألة ضرورية، وانّ التفاهم الاميركي – الايراني حول الملف النووي، وبالتالي إنّ تخفيف العقوبات سيسمح بعودة تدفّق النفط بقوة.
وقد تكون واشنطن بحاجة للتفاهم مع ايران لمنع «الشهية» الصينية في اتجاه المنطقة، فالصين تستحوذ على 75 % من صناعة النفط في السودان، وستبدأ في تشغيل ميناء حيفا، وهي تستثمر بقوة في القاهرة. ربما ما يجعل واشنطن أقل قلقاً وتوتراً انّ الصين لم تنجح بعد في تحويل قوتها الاقتصادية وترجمتها الى نفوذ سياسي راسخ.
وفي المقابل، إنّ ايران بحاجة الى السيولة، فصندوق النقد الدولي يقدّر انكماش الاقتصاد الايراني بـ 6 %، وانّ التضخم يتجاوز 30 %، وعملتها فقدت 85 % من قيمتها، مُضافاً الى كل ذلك أكثر من مليون اصابة بوباء كورونا، واكثر من 55 الف وفاة لبلد يتألف من 80 مليون نسمة.
وسط كل هذه المؤشرات، ستباشر ادارة بايدن تقدّمها في اتجاه ايران، مرّةً للوفاء بوعدها في إعادة الحياة الى الاتفاق النووي ولكن الى جانب ذلك ضرورة إيجاد حل للصواريخ البالستية والتنظيمات المتحالفة مع ايران او بعبارة أدق مدى النفوذ الاقليمي لإيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. رئيس لجنة الشؤون الخارجية الجديد في مجلس النواب الاميركي غريغوري ميكس، وهو ديموقراطي بطبيعة الحال، قال خلال جلسة مغلقة مع ديبلوماسيين أوروبيين «انّ الانسحاب من الاتفاق النووي كان خطأ جسيماً، ولذلك علينا العودة الى حيث كنّا». وأضاف غريغوري، وهو من اصول افريقية ومعروف بقربه من الرئيس السابق باراك اوباما، أنّ ايران بحاجة للعودة الى الامتثال للضوابط التي وضعت، وانّ هذه هي بداية المفاوضات وليست أبداً نهايتها.
وتابعَ شارحاً أنّ واشنطن متمسّكة بمسألتين من خارج الاتفاق النووي، هما: الصواريخ البالستية والتنظيمات المتعاونة مع ايران، «ونحن لدينا طرق معالجة اخرى، مثل المزيد من العقوبات. لذلك يمكننا ان نفعل اكثر من مهمة في وقت واحد».
ربما تحدث غريغوري عن وسائل الضغط المعروفة والمعهودة، لكن ثمة ضغوطاً اخرى قد تتحرك مجدداً في الساحات حيث الفوضى، مثل العراق وسوريا. ذلك انّ بايدن سيعيد الرهان على دور أقوى للاكراد، وهو ما قد يشكّل مساحة عمل مشتركة مع اسرائيل. والاكثر خطورة ما يتردد حول استعادة خلايا «داعش» لنشاطها، مع الاشارة الى انّ دويلة «داعش» ظهرت الى الوجود خلال ولاية الرئيس السابق باراك اوباما.
ووفق ما سبق، فإنه لا بد من تأكيد استنتاجات سابقة، هي أنّ واشنطن منشغلة بملفات كثيرة، وانّ الملف اللبناني ليس على الطاولة الآن. وبالتالي، إنّ باب الخلاص الدولي الوحيد المفتوح امام لبنان هو عبر البوابة الفرنسية التي ستحصل على وكالة اميركية ولو محددة المهمات. والأهم انّ الاهداف الاميركية في لبنان لا تختلف كثيراً بين ادارتي ترامب وبايدن، ولو انّ الاسلوب قد يكون اكثر هدوءاً.
وفي هذا الاطار سَخر ديبلوماسي اميركي مَعنيّ بالملف اللبناني من الكلام الذي أورده النائب جبران باسيل حول تبدّل الموقف الاميركي إزاء لبنان، وايضاً حول ما رَدّده مسؤولون في «التيار الوطني الحر» عن قرب إزالة العقوبات عن باسيل وإنزالها بأطراف اخرى. وسأل الديبلوماسي الاميركي بابتسامة ساخرة: «هل هكذا تقرأون التطورات السياسية؟ للولايات المتحدة الاميركية سياسة لها علاقة بمصالح الدولة وبرؤية كاملة، وليست أهواء وتقلّبات ضيقة ومحدودة. فلا تكونوا سُذّجاً».