كتب أحمد الزعبي في “اللواء”:
تقاطعت في الأيام الأخيرة أنباء عن مشاورات بين عدد من القوى السياسيّة التي تبحث «قيام جبهة وطنية لمواجهة الانقلاب على الطائف، خصوصاً بعد «الفيديو المسرب» الذي يتهم فيه رئيس الجمهورية الرئيس المكلف بـ «الكذب».
في الأثناء، لا الانهيار الحاصل، ولا التمنيات الخارجية، ولا الضغوطات الداخلية نجحت في إقناع المعطّلين بضرورة تشكيل حكومة تعمل على إخراج البلد من أزماته. لا جديد سوى الكيديات والنكايات والضحك على الشعب والتذاكي على المجتمع الدولي. أصلاً، لماذا الحكومة طالما لدينا المجلس الأعلى للدفاع، والشعب يعيش في نعيم قراراته المالية والأمنية، ولا تسأل عن الدستور، فالدساتير تحتاج رجال دولة يحترمونها.. هكذا يصبح توسيع إطار البحث للخروج من المأزق الوطني ضرورة، خصوصاً مع تقاطع معلومات مؤكدة عن خيبة أمل عميقة تنتاب أكثر من جهة عربية وازنة مما وصلت إليه الأوضاع في لبنان على كل المستويات.
الثورة سبّاقة برسم طريق الحل
قبل الأطراف السياسية المشار إليها، كررت الثورة مراراً مطلب تشكيل حكومة اختصاصيّين مستقلّين تحظى بثقة الداخل والخارج وتباشر إصلاح ما أفسدته المنظومة المتحكّمة وتوقف الانهيار الرهيب، لكنه رأت أيضاً أن أحدَ أهمّ مداخل كسر حلقة الجمود تبدأ باستقالة رئيس الجمهورية مع عرض موجبات هذه الأمر ومناقشة الهواجس التي تعترض تحقيقه، وأهمها أن هذا العهد غير مأسوف عليه، لأنه عهد نحس وبؤس وإفقار وتجويع، وعهد تعطيل الدستور وتغليب الشعبويات والكيديات وتقييد الحريات وعزلة لبنان، والأهم الأهم حاجةُ لبنان إلى رئيس حَكَم يفرض احترامه ويحترم المواقع الدستورية الأخرى في السرّ والعلن، ولا يرمي الكلام الفتنوي الطائفي بناءً على أحقاد وحسابات عائلية، ويصون الدستور والمؤسسات، ويؤمن بقوة جيش بلاده، وبأهمية الشرعية… وهذه المواصفات متوفرة في كثيرين من القيادات المارونية التي تتحسّر عما آلت إليه الرئاسة ولبنان، وهي قادرة على استعادة دور الرئاسة – الحَكم، والعمل بإخلاص لمعالجة الانهيار.
الاستقالةُ تحفظ ماء الوجه وتؤمّن مخرجاً لائقاً وتفتح ثغرة في جدار الأزمة وإعادة بناء السلطة.. والشعب لن يقبل، في حال حصولها، ببقاء الآخرين في مواقع التحكّم والسيطرة
ثمة كثيرون جداً يتمنون الذهاب سريعا لهذا الخيار، وأن يكون بمباركة البطريركية المارونية قبل غيرها، صوناً للبنان وللرئاسة ولما تبقى من مقومات للبلد الذي كان واحةً للشرق، وفي تقدير هؤلاء أن استقالة رئيس الجمهورية، وطبعا من ضمن شعار «كلن» لبقية المنظومة، مهمّة وضرورية وتعطي زخماً لبدء مرحلة انتقالية شفافة تعيد الأمور إلى نصابها، بعدما تحوّل موقع الرئاسة إلى طرف، ووضع الرئيس عون نصب عينيه مسألة توريث جبران باسيل فوق أي اعتبار.
لقد استنفد هذا العهد البائس، كل زخمه في رفع باسيل والدفاع عنه وتغطية تجاوزاته، ووضع كل امكانات الدولة وقدرة التعطيل في سبيل ذلك. خسرَ اللبنانيون أمنهم واقتصادهم ومدخراتهم وسمعتهم في العالم في ظل هذا العهد الذي يصرّ رمزه على تحدّي إرادة اللبنانيين ومشاعرهم من أجل الصهر المعجزة حتى وصلوا حرفياً، إلى جهنم. سبق للرئيس عون، ذات مرّة، أن «تحدى العالم كله، وأجهزةَ مخابراته أن يثبت أن فرداً من عائلته متورط بالفساد».. وإن حصل فإنه مستعد لأن يترك الرئاسة. ولسان حال الوقائع يصرخ؛ فخامة الرئيس فسادُ صهركم ليس بحاجة إلى أدلة، ماذا يعني أن تُعطّل البلاد ويُخنق الدستور، وتُحتجز الحكومات، ويُزرع الأزلام في الإدارات، وتُسخّر أجهزة الدولة وماليتها العامة في صالونات مطارات العالم، وتقرّ المليارات بشكل غير شفاف كرمى لعيون صفقاته؟
هل الاستقالة كافية؟
وإذ لا يكفي التنديد بسياسات العهد وممارساته وشعبوياته حصراً من دون الذهاب للمطالبة باستقالة الرئيس؛ هل الاستقالة ستكون كافية لقلب الأوضاع؟ وهل يدرك ساكن القصر في بعبدا ذلك؟
أغلبُ الظن أنه لم يفعل، ولن يفعل. لكن المهم هو التصويب بالاتجاه الصحيح، وتحديد أصل المشكلة وطريق الحل.. وأقصرها استقالته. بات رحيل رئيس الجمهورية مدخلاً ضرورياً لاستعادة الانتظام وخوض طريق الإنقاذ، ولا حاجة في ظل الوضع الخطير القائم إلى كل التبريرات والأوهام التي تعرقل الانتقال الفعلي والحقيقي بلبنان من الحضيض الكارثي، والفشل، والتفكّك والتخلي عن السيادة الذي يقبع فيه إلى مرحلة العودة لاحترام الدستور ومباشرة الإصلاح الحقيقي ومحاربة الفساد والمحاصصة، وكشف حقيقة الجريمة ضدّ الإنسانية التي حصلت في الرابع من آب، وإعادة لبنان إلى الشرعيتين العربية والدولية.
من المؤكد أن المجتمع الدولي يدرك تفاصيل الانتهاكات الخطيرة للقوانين الإنسانية التي مثّلتها جريمة المرفأ، ويدرك أيضاً تلاعب القوى السياسيّة بالدستور ومصالح الشعب، ويدرك – فوق ذلك – أنه قبل المبادرة الفرنسية وزيارات ماكرون، كما بعدها، وقبل فوز بادين، كما بعده، وقبل تكليف الحريري تشكيلَ حكومة لن تخرج للنور، كما بعده، وقبل انفجار بيروت الكارثي وتدمير بيروت، كما بعده.. لا خلاص لهذا البلد في غياب السيادة، وفي ظل الهيمنة والمشاريع الخارجية، وأطماع الشعبويين والوقحين من رموز هذا العهد.
استحقاق صعب.. لكنه استثنائي
سبق أن كتبنا، ونكرر اليوم أنه من منطلق الحفاظ على ما تبقى من الدولة ومؤسساتها، ومن أملٍ بالخروج من القعر، وإمكانيةٍ بإقناع المجتمعين العربي والدولي بمساعدة للبنان للنهوض من جديد.. على رئيس الجمهورية الاستقالة من دون انتظار مزيد من غضب الشعب. الاستقالةُ إلى كونها تحفظ ماء الوجه هيَ، من دون شكّ، مصلحةٌ وطنيةٌ خالصة، وتؤمّن مخرجاً مشرفاً ولائقاً للرئيس عون لإنهاء هذا العهد البائس بأقل الخسائر، وتفتح ثغرة كبيرة ومهمة في جدار الأزمة.. وربما تشجّع آخرين من الطبقة السياسية المتحكّمة ليحذو حذوه في فتح الطريق أمام إنقاذ البلد، بعد وقف حالات الإنكار والمكابرة، بل إن الشعب لن يقبل، في حال حصول هذا الأمر، ببقاء الآخرين في مواقع التحكّم والسيطرة وتدمير البلد، وبهذا المعنى ستكون خطوة الرئيس عون تاريخية وإنقاذيّة ووطنية بكل المعايير، وتفتح الباب لإعادة تكوين السلطة على أسس شرعية ودستورية.
طالما الأزمة مستحكمة، والانسداد تام، والانهيار شامل، والهيمنة كاملة، وتخطي الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد واللياقات فاضح، وأمام إصرار أركان السلطة على الإنكار، على الثورة، وعلى المجتمعين العربي والدولي المباشرة بالتفكير من خارج الخيارات المجرّبة، فأمام هول المأساة والتدمير الممنهج، ينبغي اجتراح حلّ، وينبغي أن يتحمّل أحد المسؤولية التاريخيّة كمقدمة لفرض الأمر على الباقين.. وإلا هل نطالب باستقالة الشبح؟!