سادت توقعات وانطباعات في الأيام الأخيرة بشأن جبهة معارضة وطنية يكون من أهدافها دعوة الرئيس ميشال عون الى التنحّي وممارسة ضغوط في اتجاه الإطاحة به.. هذه التوقعات لم تأتِ من فراغ وإنما استندت الى حركة سياسية نشطت في الكواليس وبرز فيها «العشاء السري» الذي حصل في منزل الرئيس تمام سلام في المصيطبة، بحضور الرئيسين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة والنائب وليد جنبلاط، وزيارة الرئيس فؤاد السنيورة في اليوم التالي الى عين التينة للقاء خاص مع الرئيس نبيه بري، والتبدل في لهجة جنبلاط وإقدامه على رفع سقف خطابه السياسي الذي ورد فيه تلميح الى ثلاث نقاط أساسية، هي: مواجهة عهد عون بما يمثله من انقلاب على اتفاق الطائف، ورفض الخضوع لمشروع الهيمنة الإيرانية الذي سيؤدي الى تدمير ما تبقّى من لبنان الدولة، واستدعاء احتضان عربي للبنان بدلا من تركه في قبضة إيران.
فلبنان بلد التوازنات لا يمكن أن يستقيم من دون مساندة وفعالية خارجية. لم يتأخر أمر الجبهة الوطنية المعارضة وما أحدثته من لغط وبلبلة، حتى سُحبت من التداول وسارع سلام الذي استضاف لقاء رؤساء الحكومات مع جنبلاط الى تطويق التوتر والمضاعفات، وحرص على نفي وجود مشروع من هذا النوع، قائلا إن اللقاء حُمِّل أكثر مما يحمل، وأن الكلام عن جبهة معارضة للعهد ينطوي على الكثير من المبالغة.
وفي الواقع، يقتصر الأمر على «ورقة سياسية» أعدّها السنيورة وشكلت محور بحث في اللقاء، وقد تضمنت مجموعة من المبادئ أبرزها الإسراع في تشكيل الحكومة وتحقيق الإصلاحات التي وردت في المبادرة الفرنسية، والتمسك باتفاق الطائف وتطبيقه، وفرض سيادة الدولة على كامل أراضيها، ووضع استراتيجية دفاعية للبنان، واستقلالية القضاء، وإعادة ترتيب أوضاع القطاع المصرفي بدءا بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي.
«ورقة السنيورة» تصلح وتطرح برنامجا للمرحلة المقبلة، وتطلق نقاشا متعدد الأطراف حول ما يمكن فعله، ولكنها لا تؤسس لـ «جبهة وطنية» ما زالت افتراضية تحول دون قيامها جملة عوامل وأسباب أبرزها:
1 ـ لا يرغب رؤساء الحكومات السابقون في قيام أي جبهة سياسية قبل التواصل والتنسيق مع المرجعيات المسيحية، إذ ليس وارداً لديهم قيام «جبهة إسلامية» والتسبّب باصطفاف طائفي يخدم «العهد والحزب» ويصوّر المشكلة على أنها مشكلة سنيّة ـ مارونية ومشكلة دستور وصلاحيات، فيما هي في واقعها وعمقها أعمق وأشمل.
2 ـ أي جبهة وطنية تحتاج الى العنصر والمرتكز الشيعي الذي لا يتأمّن إلا مع الرئيس نبيه بري. ولكن رئيس المجلس منكفئ حاليا وحتى إشعار آخر الى «الحياد السلبي»، ويمتنع عن التدخل في الملف الحكومي من خلفية الانحياز الى الحريري والضغط على عون.
والرئيس بري الذي يجاهر برفضه الانتخابات النيابية المبكرة لا يجاري الداعين الى انتخابات رئاسية مبكرة، ويدعم إجراء الاستحقاقات الدستورية والانتخابية للعام المقبل في مواعيدها الطبيعية.. والأهم أن بري يأخذ في الاعتبار موقف حزب الله الذي يدعم رئيس الجمهورية بقوة، ويرى في أي معركة سياسية و«جبهوية» ضده ليس فقط محاولة لكسر ميشال عون وهزيمته، وإنما أيضا لمحاصرة حزب الله وتفكيك منظومته السياسية وضرب حلفائه، وخصوصا الرئيس عون الذي يجري تدفيعه ثمن تحالفه مع الحزب.
هذا التحالف الذي خلط أوراق التوازنات الداخلية وأثر على موقع لبنان وتصنيفه الإقليمي.
3 ـ لا يمكن لجبهة وطنية أن تقلع من دون الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل كمرتكز سنّي أساسي، في حين أن الحريري يعمل على أجندة خاصة أول بنودها العودة الى رئاسة الحكومة مهما طال الانتظار، وليس في بنودها ما يشير الى رغبة المواجهة مع حزب الله الذي يقيم الحريري معه علاقة مستقرة قابلة لأن تتحوّل مجددا الى علاقة مساكنة تحت سقف الحكومة وتحت عنوان «ربط النزاع».
4 ـ الجبهة الوطنية لا تستقيم من دون المكوّن المسيحي، وفي ظل حالة الاستنهاض التي بادر إليها البطريرك الراعي تحت عنوان «الحياد»، وحالة التبعثر السياسي للأحزاب والقوى المسيحية، بين طروحات وأولويات متعددة، فإن الأنظار تتجه الى القوات اللبنانية بصفتها الركن المسيحي في تحالف 14 آذار سابقا وفي أي تحالف جديد.. ولكن القوات ليست مستعجلة أو متحمسة لأي مشروع جبهوي جديد إلا على أسس واضحة، أولها أولوية إجراء الانتخابات النيابية على أساس القانون الحالي، وعدم تقديم الانتخابات الرئاسية على «النيابية»، والتحفظ على دعم جبهة تطرح إسقاط رئيس الجمهورية عنوانا عريضا وتهمل التفاصيل والضمانات لمرحلة ما بعد عون.