كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يجزم العارفون، أن لا تغيير سيطرأ على النهج الحالي للولايات المتحدة تجاه لبنان. فالرئيس جو بايدن لن يبدِّل مسار دونالد ترامب إلّا ببعض التفاصيل الثانوية. لكن الرئيس الجديد محظوظٌ بامتياز تاريخي عن سائر أسلافه، وهو أنّ الشرق الأوسط الجديد- وفيه لبنان الجديد- سيولد على الأرجح خلال ولايته، في السنوات الأربع المقبلة.
بمعزل عن التفاصيل، لطالما شكَّل لبنان نواة صلبة في داخل الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. وحتى خلال المراحل التي عمد فيها الأميركيون إلى «تجيير» السلطة في لبنان للسوريين، كانوا هم يشرفون على اللعبة «من فوق»، حيث يريدون تأمين مجموعة من الثوابت، والباقي متروك ضمن التفاصيل.
ما هي الثوابت التي تتمسّك بها الولايات المتحدة في لبنان، ولا تتهاون في التراخي إزاءها؟
تقليدياً، هي:
1- ضمان عدم تعرَّض إسرائيل لأي تهديد كان، من الأراضي اللبنانية.
2- الحفاظ على استقرار لبنان، بحيث لا تسقط الدولة، ولا يشكّل تهديداً للمعادلات الجيوسياسية القائمة في الشرق الأوسط.
3 – تحضير لبنان للدخول في عملية السلام في الشرق الأوسط، بما في ذلك الشقّ المتعلق باللاجئين الفلسطينيين.
4 – تكريس استمرار لبنان نقطة ثقل أساسية للولايات المتحدة والمعسكر الغربي على الشاطئ الشرقي للمتوسط، بالمعاني السياسية والأمنية والاقتصادية.
اللافت أنّ السوريين، عندما جرى «تلزيمهم» الملف اللبناني، أخذوا على عاتقهم تأمين هذه الضمانات للأميركيين، لعقود عدّة. والأرجح أنّ خروجهم من لبنان جاء نتيجة اختلالات طارئة على اللعبة. فبعد أحداث 11 أيلول 2001 بدأ الشرق الأوسط كله يدخل عصراً جديداً.
تقليدياً، عاش نظام الأسد هانئاً لعقود. كان يبيع الاستقرار، والغرب يشتري: الأمن لإسرائيل، لا إرهاب إسلامي أو يساري، و”الحكم الذاتي” للبنان مضمون، ومعه كل مصالح الغرب. ولكن، عندما بدأت الأمبراطورية الفارسية تفرض خيارات جديدة، انتزع الغرب «وكالتهم» من يدِ الأسد، لأنّها لم تعد صالحة.
اليوم أيضاً، يريد بايدن صيانة هذه الثوابت، كما ترامب. ولذلك ستلتزم إدارته المواقف نفسها:
1 – سيحرص الأميركيون على تطوير مناخات التفاهم التي بدأت في الناقورة حول ترسيم الحدود البحرية، لانتزاع أسباب التوتر مع لبنان. وفي المرحلة المقبلة سيستأنفون وساطتهم على هذا الخط، لإقناع لبنان بالتراجع عن طروحاته الأخيرة، لجهة توسيع المنطقة التي يطالب بها من 864 كيلومتراً إلى 2250 كيلومتراً.
ولكن، على المدى البعيد، لا يمكن فصل هذا الملف عن مسار المفاوضات التي دارت أو تدور بين إسرائيل والدول العربية، والتي تحمل طابعاً سياسياً، خصوصاً إذا دخلت فيها سوريا أو إذا تحرّكت المفاوضات بين واشنطن وطهران. فهناك حصّة للبنان في مسار التسوية المفترضة في الشرق الأوسط وسيأتي موعدها عندما تنضج الظروف.
2 – مواجهة التوسُّع الإيراني، لجهة إمساك «حزب الله» بالنفوذ في لبنان ونشره منظومة الصواريخ الدقيقة في محاذاة إسرائيل، وامتلاك منفذ على المتوسط قبالة خطوط إمداد الطاقة وأوروبا الغربية. وهذا الأمر لن تتهاون إدارة بايدن في التعاطي معه لأنّه يمثل مخاطر استراتيجية لإسرائيل وسائر حلفاء الولايات المتحدة.
3- استطراداً، سيمضي الأميركيون في عقوباتهم على «حزب الله»، وعلى لبنان ككل، إذا لم يجرِ فكّ ارتباط الدولة بـ”الحزب”. ويوحي المطلعون، بأنّ العقوبات التي كانت تتصاعد سريعاً في نهاية عهد ترامب ستواصل تصاعدها بمعزل عن تطوّر المناخات بين واشنطن وإيران.
فالتوسّع الإيراني في الشرق الأوسط ليس خاضعاً للمساومة في واشنطن، لأنّه يهدّد مصالح إسرائيل أولاً. وسيحصل الإسرائيليون على التغطية للاستمرار في توجيه ضرباتهم إلى المواقع الإيرانية في سوريا، ولكن ليس في لبنان، لأنّ الأميركيين يتكفّلون بمعالجة هذه المسألة.
4- بناء على ذلك، لن يقوم الأميركيون بعملية استثنائية لإخراج لبنان من مأزقه الاقتصادي. وعلى العكس، ستكون هذه الورقة هي بديل الضربات العسكرية، من أجل دفع لبنان إلى التنازل.
وسيستمر حصار المساعدات الدولي الخانق على لبنان. ولن يحصل طاقم السلطة إلّا على المساعدات الإنسانية والطبية الناتجة من «الكورونا». وفي رأي البعض، ربما استفاد ويستفيد الكثيرون من تفاقم الجائحة بالشكل الذي يدعو إلى الاستهجان.
ولكن، يستعجل كثيراً مَن يظنّ أنّ بايدن سيضع خريطة لبنان على الطاولة فور وصوله إلى البيت الأبيض، وسيباشر بابتكار الحلول لأزماته. وأساساً، ليست بمعظمها أزمات محض لبنانية، بل هي أزمات تشكّل انعكاساً لإرادات قوى خارجية.
والأمر هنا لا يتعلق فقط في ما يتعلق بإسرائيل وقرار الحرب والسلم وخيار الانفتاح أو الانغلاق إزاء الغرب والعالم العربي، بل حتى في ما يتعلق بالفساد وبناء المؤسسات. فالطبقة الفاسدة ليست موجودة بسبب قوتها وتجديد نفوذها بالانتخابات، بل هي موجودة ومتحكّمة بفعل التحالف المصلحي القائم بين أركانها، ولو اختلفوا سياسياً في الظاهر أو تنازعوا المواقع والحصص.
ولذلك، لا أحد يمتلك الوقت للسؤال عن لبنان حالياً. والمهم ألّا يتجرّأ فيه أحد ويرتكب عملاً يمسّ بالضمانات التي تحرص عليها واشنطن. وفي الانتظار، قد يكون الأسهل للجميع أن ينتظروا اكتمال الانهيار اللبناني نهائياً. فبعد ذلك، سيتعب الرافضون اليوم وتتلاشى قواهم، ويضطرون إلى القبول بإعادة البناء من الصفر.