كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
لعلّه من عجب العجاب، أن يحطّم الدين الإسلامي منذ نشأته وعلى مر العصور عملاً بكتابه وعقيدته، التماثيل والأصنام فوق رؤوس الكافرين ويحرّمها أو يرذلها كونها ترمز الى حقبة الوثنية، الا “حزب الله” وفي لبنان بالتحديد، لغاية “لم تعد في نفس يعقوب”، انما خرجت الى العلن و”غبّ الطلب”، على خلفية الاحتفالية المريبة التي قد تقارب “التأليه” تخليداً لقاسم سليماني.
ما يفعله “حزب الله” بسليماني يتجاوز حدود ولاية الفقيه التي جنّد الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصرالله نفسه في خدمتها، وشذّ عن التقليد المتبع في رحابها، ووضع سليماني في مرتبة تتخطى “مصدّر الثورة” الخميني، وخطف ذكراه من إيران التي تعاملت معها بوصف سليماني شخصية قيادية متماهية مع ولاية الفقيه، ولم ترفع له اي نصب او تمثال لا له ولا لغيره.
تتعدى هذه المسألة الفاقعة الشكل أيضاً لتحمل مضامين ورسائل داخلية وحتى خارجية لا يسلم منها “أهل البيت”، وأبرزها أنّ “حزب الله” هو من يقرر من “يُقدس ويشيطن”، بصرف النظر عن التضحيات الحزبية او العسكرية!
إذ لم يسبق أن حظيت شخصية سواء كان صاحبها حيّاً او ميتاً، بما حظي به قاسم سليماني من احتفاء وتبجيل من قبَل “حزب الله”، لا مؤسس الدولة الاسلامية في ايران السيد الخميني ولا حتى عماد مغنية، اللذين يشكلان شخصيتين محوريتين في مسيرة “حزب الله” وادبياته منذ تأسيسه الى اليوم، فحجم الجداريات واللوحات والنصب التذكارية، التي جرت اقامتها منذ اغتيال سليماني وبعد مرور عام على غيابه، غير مسبوقة في تاريخ “حزب الله”.
وإذا ما أضيفت التحقيقات والتقارير الاعلامية التي أنجزتها المحطات الاعلامية المتنوعة التابعة لـ”حزب الله” او الخاضعة لتأثيره وتوجيهاته، فإن ذلك ايضاً ليس مسبوقاً في حجمه ومساحته، حيث تفوّق الاحتفاء بهذه الشخصية على كل من سبقه من شخصيات، يقدّمها “الحزب”، باعتبارها “مقدّسة” في مسيرته السياسية والدينية والعسكرية. وكان وضع تمثال نصفي لسليماني في محاذاة منطقة “حرش القتيل” التابعة لبلدية الغبيري، هو السبق الذي حققه “حزب الله” من خلال كسر ما كان محظوراً عملياً، في اعتماد التماثيل لشخصيات سياسية وعسكرية ودينية، سواء في لبنان أو ايران او على امتداد دول المحور الذي تقوده ايران، اذ لم يعهد مناصرو “الحزب” سياسة رفع التماثيل لأي من رموزه او رموز “الثورة الايرانية”، الراحلين منهم والأحياء.
هذا النهج في تكريم سليماني يفرض التساؤل حول سبب التمييز بينه وبين اقرانه، ممن سبقوه الى الغياب ممن ارتبط وجودهم وغيابهم بـ”حزب الله”، لا بل سبب هذا الاصرار على تغليب الهوية الدينية او المذهبية على الهوية اللبنانية او الوطنية. اذ لم يُرفع على سبيل المثال تمثال لعماد مغنية الذي يفترض انه الأكثر حضوراً وتأثيراً في تاريخ “حزب الله” منذ تأسس وصولاً الى مرحلة الاغتيال.
لا يخفى أنّ هذين الرجلين تحديداً اي مغنية وسليماني، هما من الذين لم يقترن اغتيالهما بأي ردّ معتبر على الجهتين اللتين استهدفتهما، أي واشنطن والثانية تل أبيب، التي اتهمها “حزب الله” بالوقوف وراء اغتيال مغنية.
ما يمكن قراءته في مرحلة ما بعد اغتيال مغنية في العام 2008، إذ فضلاً عن عدم القيام بأي ردّ على اسرائيل، يمكن ملاحظة أنّ الزخم العسكري والأمني وحتى السياسي لـ”حزب الله”، تركز ولا يزال في مساحات داخلية وعربية سواء في سوريا او العراق واليمن، وفي مواجهة التيارات الاسلامية المصنّفة ارهابية وقبلها في مواجهة “الثورة” السورية، وقبل كل ذلك، في 7 ايار 2008 الشهير في بيروت.
فيما بقيت اسرائيل خارج الأولويات العسكرية المباشرة، على رغم استهدافاتها المستمرة لمواقع ايرانية وسورية وأخرى تابعة “للحزب”، من دون أن يلقى ذلك رداً مباشراً منه أو من بقية اطراف المحور الايراني.
ما بعد مغنية ترسّخت مرحلة جديدة سمتها الأبرز، القتال في مساحات عربية عززت من هوية “الحزب” المذهبية والايرانية، ما بعد اغتيال سليماني يمكن توقع مرحلة جديدة في مسيرة “حزب الله”، فاذا كانت مرحلة مغنية هي المرحلة المرتبطة بمواجهة اسرائيل أولاً، فإنّ مرحلة ما بعد مغنية يمكن ادراجها بأنّها مرحلة سليماني، وهي التي اتسمت بمواجهات مع الداخل العربي سواء تحت عنوان مواجهة “التكفيريين” او المتورطين في الربيع العربي، وهي مواجهات كانت سمتها البارزة الطابع المذهبي أو الصراع الفارسي العربي.
مرحلة ما بعد سليماني تطرح على “حزب الله” أسئلة وجودية تقوم على أساس البحث عن وظيفة سياسية وأمنية اقليمية أو وظيفة لبنانية صافية، الأرجح أنّ “حزب الله” لا خيار له إلّا العودة الى داخل الحدود وشروط الدولة، وهذا خيار صعب على حزب لطالما قدمّ نفسه كقوة اقليمية وربما عالمية، لكن العودة الى الداخل على رغم الخسائر التي ستطاله، تبقى أقل بكثير من الكارثة التي تلحق به، وجودياً، وبلبنان في ما لو ظلّ في الخارج سياسياً وأمنياً.
هذه العودة تتطلب عدّة جديدة ورؤية مختلفة لا تبدو أنها ناضجة حتى الآن، وهذا ما يفسره الهجوم الموجه من قيادة “حزب الله” على الناشط والمؤسس الاسلامي في لبنان قاسم قصير، حين لفت ونبّه الى ما ينتظر “حزب الله” ولبنان في زمن ما بعد سليماني. ليس هناك أحد أشدّ صمماً من اولئك الذين لا يريدون ان يسمعوا!