كتب معروف الداعوق في “اللواء”:
لم تعد حجج تلطي رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه وراء الدستور لعرقلة تشكيل الحكومة الجديدة تقنع أحداً، ولا الادعاء بأن الرئيس المكلف سعد الحريري يخالف النصوص الدستورية المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية في التشكيلة الوزارية التي قدمها لعون قبل أسابيع، تُبرّر للاخير الامتناع عن إعطاء جوابه النهائي عليها وإبقاء البلد بلا حكومة جديدة، هو بأمس الحاجة إليها، استجابة لمبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي زار لبنان مرتين متتاليتين، وأبدى استعداده غير المحدود لمساعدة اللبنانيين لحل ازمتهم المالية والاقتصادية وإعادة اعمار ما دمره الانفجار المشؤوم لمرفأ بيروت وتقديم ما يلزم للنهوض بالوضع الاقتصادي.
فالعودة إلى تسلسل الوقائع والأحداث منذ إعلان الرئيس سعد الحريري نيته للترشح لرئاسة الحكومة قبل ما يقارب المائة يوم، بعد اعتذار السفير مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة تظهر بوضوح ان «القصة ليست رمانة، بل قلوب مليانة»، عززها أكثر من موقف مباشر وغير مباشر عن صهر رئيس الجمهورية النائب جبران باسيل، معلناً بالفم الملآن رفضه القاطع لهذا الترشح بذريعة ان الحريري بترؤسه حكومة الاختصاصيين على أساس المبادرة الفرنسية يخالف نصوص هذه المبادرة باعتباره سياسياً وليس اختصاصياً، ومتوعداً بحث رئيس الجمهورية على الامتناع عن توقيع مراسيم تشكيل الحكومة، إذا سارت الأمور عكس توجهاته الشخصية ورغباته في ان يكون ممر التسمية للحريري عن طريقه ومن خلاله تسلك عملية التأليف خواتيمها النهائية. وكان أوّل غيث العرقلة عندما تشكّلت أكثرية نيابية مؤيدة لترشيح الحريري ومعظمها من حلفاء رئيس «التيار الوطني الحر»، سابقاً وبعضهم حالياً، إقدام رئيس الجمهورية على تأجيل موعد الاستشارات النيابية الملزمة اسبوعاً عن موعدها دون أي مبرر مقنع، سوى محاولة ممجوجة لاعاقة عملية تسمية الحريري لرئاسة الحكومة، ولكن من دون جدوى وكانت النتيجة لهذه الاستشارات تسمية الحريري لرئاسة الحكومة الجديدة، وأصبح رئيس الجمهورية امام الأمر الواقع وملزماً دستورياً بالاستجابة والتشاور مع الرئيس المكلف لتأليف حكومة المهمة استناداً إلى المبادرة الفرنسية، برغم اعتراض باسيل الذي أعلن أكثر من مرّة رفضه المشاركة بالحكومة العتيدة علناً امام الرأي العام، ولكنه واقعياً كان يبعث برسائل وإشارات متتالية لكي تسلك طريقة تشكيل الحكومة مساراً مشابهاً من خلاله مباشرة كما كان يحدث في تشكيل الحكومة الأولى والثانية للعهد ولكن من دون أي استجابة من الرئيس المكلف. وعندها بدأت اساليب العرقلة تأخذ اشكالاً متعددة، تارة تحت ما يسمى بحصص الرئيس عون الوزارية وتارة أخرى بحصر مهمة تسمية الوزراء المسيحيين من خلاله فقط، وطوراً وباختراع بدعة وحدة المعايير وما إلى هناك من طروحات ملتوية، وخلاصاتها، اما تأليف حكومة محاصصة يكون فيها الثلث المعطل من حصة رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، واما الامعان بالعرقلة والتعطيل وإطالة أزمة التشكيل ومحاولة إلصاق تهمة العرقلة زوراً بالرئيس المكلف وخلافاً للواقع، بذريعة انه بانتظار مرور استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية خشية فرض عقوبات أميركية عليها كما كان يردد نواب التيار العوني على وتيرة واحدة بالنص الحرفي، في حين انكشفت حقيقة ممارسات الفريق الرئاسي بتعطيل عملية التشكيل عمداً عن سابق تصور وتصميم امام الرأي العام بعد تملص رئيس الجمهورية وفريقه من كل مساعي وجهود تذليل الخلافات بين عون والرئيس المكلف وكان اخرها المبادرة التي أطلقها البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي لم ينفك عن توجيه مواقفه الناقدة والجريئة لمحاولات اعاقة التشكيل تحت ذرائع لم تعد مقنعة لأحد.
لم تقتصر ممارسات وسلوكيات الرئاسة في تعطيل تشكيل الحكومة وعرقلتها عمداً عند حدود الشعارات والذرائع الملتوية والمطالب التعجيزية المغطاة بالتجاوز الدستوري لصلاحيات رئيس الجمهورية ودوره في عملية التشكيل، بل توّجها، تسريب «الفيديو» الفضيحة لرئيس الجمهورية الذي يتهم فيه الرئيس المكلف بالكذب، في سابقة، قد تكون الأولى بهذا المستوى المتدني بلغة التخاطب السياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومة، وحتى لم تسجل سابقة لها في ذروة الحرب الأهلية المشؤومة التي مرّت على لبنان، ليكمل الاجهاز على عملية تشكيل الحكومة بالضربة القاضية.
فمن يتصرف بمثل ما وجهه رئيس الجمهورية من اتهامات زائفة لرئيس الحكومة المكلف على هذا النحو وبمثل هذه العبارات المسيئة، تقطع آخر خيط من الثقة إذا كان ما يزال موجوداً بين الطرفين، وتدل بوضوح على ان هذا التصرف المشين، لا يعبر عن وجود رغبة رئاسية ضمنية لتشكيل الحكومة برئاسة الحريري وان التستر بالخلاف على التفسير الدستوري ما هو الا ذريعة لاخفاء رغبات الرئاسة الأولى بتعطيل تشكيل الحكومة وقطع الطريق نهائياً امام كل محاولات تذليل الخلافات وإعادة دينامية تشكيل الحكومة إلى مسارها المعهود.
وبرغم مؤشرات الخلاف على تأليف الحكومة، إنما هو بين فريق رئيس الجمهورية من جهة والرئيس المكلف من جهة ثانية ظاهرياً كما تبين المواقف والتصريحات والحملات بهذا الخصوص، الا ان جوانب التعطيل المرتبطة بمصالح إقليمية وتحديداً بالصفقات التي تطمح إيران لعقدها مع الإدارة الأميركية على حساب لبنان، ليست خافية على احد، ومن ضمنها مسألة تشكيل الحكومة الجديدة التي لم ينفك حلفاء إيران بالداخل اللبناني عن الإشارة إلى هذا الربط المباشر، الذي أصبح واقعاً ملموساً وعززه التصرف الملتبس لحزب الله في التعاطي مع عملية التشكيل المتعثرة على أمل ان يؤدي هذا التغيير إلى تحقيق مكاسب إضافية لتحالف رئيس الجمهورية مع الحزب، بما يؤدي ضمناً إلى التملص والالتفاف على المبادرة الفرنسية وفرض واقع جديد مغاير لتشكيل حكومة على مقاييس سياسية لهذا التحالف، في حين تظهر مؤشرات الاتصالات الدولية ولا سيما بين الرئيس الفرنسي والرئيس الأميركي الجديد بوادر إعادة تعويم المبادرة الفرنسية بزخم دولي ملحوظ قد تعيد اندفاعة تشكيل الحكومة الجديدة إلى مسارها في وقت قريب.