تربطني بطرابلس وأهلها علاقة وجدانية تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، يوم كنت مراهقاً وقصدت دير مار يوسف للآباء اللعازاريين في أول مجدليا بالقرب من القبّة، حيث انضممت إلى الإكليريكية الصغرى لأكثر من 5 أعوام وكنا ندرس في مدرسة “دار النور” لراهبات المحبة في ضهر العين في الكورة حيث كانت أكثرية زملائي على مقاعد الدراسة من أبناء طرابلس.
في تلك المرحلة كانت طرابلس المحطة الانتقالية التي توصلني إليها باصات “الأحدب” أنا الآتي من الأشرفية إلى الشمال، ومنها أبحث عن “سرفيس” من ساحة التل نحو القبة، لأكمل سيراً على الأقدام في اتجاه الدير. كما كانت طرابلس وجهة أي نزهة فردية. كان يحلو لي أن أقرأ الصحف والكتب مجاناً في ساحة التل حيث يغض البائع نظره عني شرط أن أعيد كل شيء إلى مكانه، وأتنزه في شوارعها وأسواقها الضيقة سيراً على الأقدام لأكتشف تراثاً عريقاً وشعبا طيباً ومضيافاً رغم فقره. كما كان يحلو لي أن أستأجر دراجة نارية صغيرة لأجول في شوارع أبعد.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي كانت طرابلس تعاني من ازدواجية مرعبة: إصرار على إفقار شعبها في موازاة حكمها وإرهابها بالقوة من احتلال النظام البعثي الأسدي من جهة وتغلغل المجموعات التابعة له بين أبنائها لاستغلالهم من جهة والتحريض ضدهم من جهة ثانية.
في العام 2005 شكلت طرابلس أحد أبرز خزانات “ثورة الأرز” وانتفضت بالوحدة الوطنية ضد الاحتلال السوري ودحرته مع بقية اللبنانيين، لكن من وصل إلى الحكم بعد الـ2005 فشل في أن يحكم وانهزم اعتباراً من تموز الـ2006 أمام “حزب الله”، وفي كل الأحوال لم يقدّم أي إنجاز لأهل طرابلس… نعم ولا أي إنجاز، لا بل زاد شعبها فقراً وقهراً، ولم يكن يرَ الطرابلسيون المسؤولين إلا في شهر الانتخابات الذين كانوا يستفيقون على طرابلس سعياً وراء أصوات أهلها في صناديق الانتخابات ليس أكثر.
بعد الـ2005 استمر التعاطي مع طرابلس بالنهج القديم اياه: إفقار أهل طرابلس لاستغلالهم أكثر، وتحويل طرابلس ساحة دائمة للرسائل بفعل تلاعب الأجهزة الأمنية والأطراف السياسية ببعض شبابها من خلال مجموعات معروفة الولاء والانتماءات تتوزع من سرايا المقاومة إلى الأطراف السياسية المعروفة. والطريف أن أهل طرابلس كما مسؤولو الأجهزة الأمنية يعرفون قادة هذه المجموعات وأفرادها بالأسماء ومن يموّلهم ويسلحهم!
من المعروف عالمياً أن استغلال الشعب يستحيل من دون سياسة إفقاره. هكذا يبدو وكأن البعض يريد لطرابلس قدراً دائماً عنوانه الفقر والقهر ليتمكن من الإبقاء على طرابلس كساحة مستباحة لعبث الأجهزة والمجموعات الأمنية وللرسائل السياسية.
لكن هذه الصورة لم ولن تمثل أهل طرابلس. الصورة الحقيقية التي يمثل أهل طرابلس هي صورة ثورة 17 تشرين وعنوان “طرابلس عروس الثورة”، وليس أي شيء آخر.
ورغم كل العبث الأمني المقيت على أجساد الطرابلسيين ودمائهم ولقمة عيشهم، يحق لأهل عاصمة الشمال أن يثوروا، ويحق لهم أن يعترضوا بكل ما أوتوا من وسائل، فليسوا هم المسؤولين عن تحويل طرابلس إلى أفقر مدينة على حوض البحر الأبيض المتوسط. المسؤولون هم الذين يستثمرون في فقرهم ووجعهم ومعاناتهم، ومن ثم يعبثون بأمنهم عبر المجموعات المعروفة ومن ثم يرسلون الجيش والقوى الأمنية لقمعهم… وأهل طرابلس يعرفون تمام المعرفة كل الحقيقة ويرددونها في كل جلساتهم. حمى الله أهل طرابلس وجميع اللبنانيين!