كتبت جريدة الأخبار:
بالرصاص الحيّ، قضى ابن طرابلس، عمر طيبة (30 عاماً). التحقيقات الأولية تفيد بأن الرصاص أطلقه عناصر قوى الأمن الداخلي، على محتجين قرب سرايا طرابلس ليل أول من أمس. الأجهزة الأمنية «يدها رخوة» على الزناد، حيث يكون الفقراء في مواجهتها. في تلك الليلة، كما يوم أمس، لم يتدخل الجيش لتفريق المحتجين، إلا ليلاً. نهاراً، لم تكن قيادته قد وجدت ما يستدعي التدخل، إلا شكلياً.
إطلاق قوى الأمن الداخلي الرصاص الحيّ ليل أول من أمس أتى بعد رمي قنابل يدوية حربية باتجاه عناصر من فرع المعلومات في السرايا. وحتى ساعة متأخرة من الليلة الماضية، لم تكن الأجهزة الأمنية قد حددت هوية الأشخاص الذين استغلوا احتجاجات طرابلس، لينقلوا المواجهة إلى مستوى عالٍ من الخطورة، يتمثل باستخدام قنابل يدوية حربية في تحركات شعبية. تقصير الأجهزة فاضح في هذا المجال، لكنه لا يشذّ عن فشلها وسوء عملها واستسهال لجوئها إلى إطلاق النار والعنف المفرط حيث يجب اللين، ثم انسحابها من المشهد حيث ينبغي أن تكون، كسماحها ليل أمس بإحراق مبنى بلدية طرابلس، وباقتحام مبنى جامعة العزم.
في طرابلس، وعلى مدى الأسبوع الفائت، تداخلت ثلاثة مشاهد لا يمكن فصل أحدها عن الآخر:
1- احتجاجات شعبية على الإقفال العام، في ظل أزمة اقتصادية ــــ مالية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، وسط استقالة حكومة مستقيلة أصلاً، لكنها قررت ألا تسيّر شؤون الناس. في المقابل، قوى سياسية اختارت أن تدير ظهرها للشارع، وتتصرّف كما لو أن البلاد ليست منكوبة اقتصادياً ومالياً ونقدياً وصحياً، متوهمة بأنها تملك ترف الوقت، فتؤخر تأليف حكومة جديدة تكون أولويتها وقف سرعة الانهيار على كل المستويات. أموال الدعم التي أقرّتها الحكومة تأخرت. وفي الأصل، المبلغ زهيد صار يساوي أقل من 50 دولاراً للعائلة الواحدة شهرياً. الطبيعي في هذه الحالة أن يحتجّ الناس، وأن يرفضوا البقاء في منازلهم.
2- القوى السياسية، وكما هي العادة، قررت استغلال الموقف لتسجيل النقاط بعضها على البعض الآخر. ثمة من يريد إحراج سعد الحريري في «بيئته». جهات أخرى لم تتّضح مقاصدها بعد. لكن كثيرين يتحركون في الاحتجاج وعند حوافه وهوامشه، رغم أن أعداد المشاركين ليست ضخمة.
3- صراع أجهزة أمنية داخلية وخارجية. لا يستبعد مسؤول أمني رفيع المستوى أن يكون جهاز أمني آخر مسؤولاً عن رمي القنابل اليدوية، في الليلتين الماضيتين، باتجاه عناصر الأجهزة الأمنية في سرايا عاصمة الشمال، كما لا يستبعد احتمال خلايا قررت التحرك حين رأت المناخ الأمني مؤاتياً لها. بيان الرئيس سعد الحريري ليلاً، كاد يقول إن الجيش هو المسؤول عما يجري في المدينة. وجّه الحريري كلاماً قاسياً للجيش، في معرض انتقاده «وقوف الجيش متفرجاً على إحراق السرايا والبلدية والمنشآت»، قبل أن يضيف: «هناك مسؤولية يتحمّلها من تقع عليه المسؤولية، ولن تقع الحجة على رمي التهم على أبناء طرابلس والعودة الى نغمة قندهار. إذا كان هناك من مخطط لتسلل التطرف الى المدينة، فمن يفتح له الأبواب؟». ربما لم يسبق لرئيس تيار المستقبل أن هاجم قيادة الجيش بلغة مشابهة. بالكلمات الواضحة، اتهم الجيش بالتقصير. أما بين السطور، ومما يقوله مقربون منه، فالتهمة للجيش تتجاوز التقصير إلى حد اتهامه بإدارة جزء مما يجري في الشارع. وفي ختام بيانه، «هدّد» الحريري بكلام إضافي «لوضع النقاط على الحروف». عبارة وجّهها خصيصاً إلى قائد الجيش، كأنه يقول له: عليكَ أن تتصرّف، وإلا فسيكون لي موقف أقسى».
مشهد أمس في طرابلس بدأ بتشييع عمر طيبة، ابن منطقة باب التبانة الذي قضى متأثراً بإصابته خلال المواجهات التي جرت مساء أول من أمس. وشهد تشييعه حشداً شعبياً غفيراً في منطقة تعدّ الخزّان الشعبي في المدينة، وهي الأكثر فقراً فيها، وسط هتافات تشيد بالشهيد وتندّد بالسلطة والقوى السّياسية.
وما كادت مراسيم تشييع ودفن طيبة تنتهي، حتى كان محتجّون يقطعون أوتوستراد التبّانة ومستديرة نهر أبو علي، فضلاً عن أوتوستراد البدّاوي الذي قطعوه منذ أول من أمس، في حين كان المحتجّون يتجمّعون في ساحة عبد الحميد كرامي (النّور) ويغلقونها بالإطارات المشتعلة وحاويات النفايات، قبل أن يبدأوا برمي الحجارة باتجاه السرايا، وقنابل مولوتوف داخل غرفتي التفتيش والحرس عند مدخلها، وقنابل باتجاه الأشجار داخل باحة السرايا، ما أدى إلى اشتعال النيران فيها. وحاولوا اقتحام المبنى، فقابلهم عناصر قوى الأمن بإطلاق الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطي لإبعادهم عنها، وسط كرّ وفرّ بين الطرفين.
في موازاة ذلك، أغلق عناصر فرع المعلومات الشارع الخلفي للسرايا، وحوّلوه إلى ما يشبه منطقة عسكرية. وحاول المحتجون اقتحام قصر العدل المجاور، وأحرقوا سيارتين أمام مدخل مقر الفرع، حيث اتخذت إجراءات أمنية صارمة منعت الدخول إلى المكان أمام أي كان، وخصوصاً إلى المبنى المقابل لمقرّ الفرع الذي يضم مكاتب شركات ومحامين وأطباء وسواهم.
ليلاً، وبعد تدخل الجيش لإبعاد المحتجين من ساحة كرامي، انتقلوا إلى مبنى البلدية فأحرقوه، في ظل غياب تام للأجهزة الأمنية والجيش.