كتب مسعود معلوف في “الجمهورية”:
تحدّيات الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن الداخلية كثيرة ومتنوعة، وفي طليعتها التصدّي لجائحة كورونا التي كانت من أهم عناصر حملته الإنتخابية، ثم مسألة الإقتصاد الذي تراجع كثيراً بسبب هذه الجائحة، إضافة الى ضرورة معالجة الإنقسام السياسي العميق في المجتمع الأميركي، وبروز ظاهرة الإرهاب الداخلي منذ اقتحام متطرفين يمينيين مبنى الكونغرس بتشجيع الرئيس دونالد ترامب وتحريضه.
هذه الأولويات الداخلية، وإن كانت مهمّة جداً وتتطلب جهداً ووقتاً كبيرين، إلّا أنّها لن تمنع بايدن وإدارته الجديدة من بذل جهود موازية في السياسة الخارجية، لمعالجة علاقات الولايات المتحدة مع سائر الدول، ومن بينها إيران، التي يشكّل الإتفاق النووي الذي سحب ترامب الولايات المتحدة منه في أيار 2008، حجر الزاوية للعلاقات بين البلدين.
لقد بنى بايدن عناصر حملته الإنتخابية على أنّه نقيض ترامب، وسيغيّر معظم قرارات هذا الأخير في حال تسلّمه الرئاسة، بدءاً باتفاق باريس للمناخ، وقرار حظر قدوم مواطنين من دول ذات أكثرية مسلمة الى الولايات المتحدة، وأمور أخرى كثيرة، بينها الإتفاق النووي مع إيران. وفي اليوم الأول من تسلّمه الحكم، أصدر بايدن مجموعة من القرارات الرئاسية التنفيذية الآيلة الى تصحيح مسار سلفه في البيت الأبيض، إلّا أنّ موضوع عودة الولايات المتحدة الى الإتفاق النووي مع إيران، وإن كان ممكناً وسهلاً من الناحيتين القانونية والدستورية، إذ يمكن الرئيس إصدار قرار تنفيذي في شأنه، لكنه صعب جداً من الناحية العملية والسياسية، ويتطلب وقتاً وجهداً للأسباب الآتية:
ـ أولاً، لقد ألحق ترامب انسحاب بلاده من الإتفاقية النووية بفرض عقوبات جديدة وصارمة على إيران، لا يستطيع بايدن التراجع عنها بسرعة، ومن دون تنازلات إيرانية مسبقة، لكي لا يُفسّر موقفه بالضعف منذ بداية عهده.
ـ ثانياً، في أول ظهور له بعد ان ثبته مجلس الشيوخ وزيراً للخارجية، أعلن أنطوني بلينكن أنّ الولايات المتحدة تود العودة الى الإتفاقية، إلّا أنّها لن تفعل ذلك قبل ان تنفّذ إيران الشروط المفروضة عليها في بنود هذه الإتفاقية، هذا بالإضافة الى أنّ بايدن أعلن في مناسبات عدة رغبة الولايات المتحدة في التفاوض مع إيران حول موضوع الصواريخ البالستية وامتدادات إيران في المنطقة، وهما موضوعان لم يكن من الممكن التفاوض عليهما أثناء البحث في الملف النووي الإيراني، لأنّ طهران كانت على وشك إنتاج السلاح النووي، وإدخال مثل هذه الأمور كان سيعقّد ويؤخّر الوصول الى اتفاق، فتمّ التركيز في حينه على الموضوع النووي على أن يتمّ في وقت لاحق التفاوض على هذه الأمور، إلّا أنّ وصول ترامب المفاجئ الى الرئاسة ومن ثم انسحابه من الإتفاقية عطّلا التفاوض على هذه المواضيع.
ثالثاً: الحزب الجمهوري يعارض الاتفاقية بقوة منذ أن كان الرئيس الأسبق باراك اوباما ونائبه بايدن آنذاك والدول الخمس الأخرى يفاوضون عليها. وفي ظل الإنقسام العميق جداً القائم حالياً في المجتمع الأميركي خصوصاً بعد الإنتخابات الرئاسية وما نتج وقد ينتج منه من أعمال شغب وتخريب، وفي جو إعلان بايدن تصميمه على رأب الصدع الداخلي واتخاذ خطوات توحيدية، فقد يكون من الصعب في الوقت الحاضر اتخاذ قرار من شأنه أن يعمّق الإنقسام الداخلي ويزيد الأمور تعقيداً.
ـ رابعاً، تمارس إسرائيل ودول خليجية ضغوطاً قوية على بايدن لثنيه عن العودة الى الإتفاقية، وبالإضافة الى معارضة الجمهوريين لخطوة كهذه، فإنّ اللوبي الإسرائيلي في الساحة الأميركية يضغط بشدة ضدّ أي قرار أميركي يمكن أن يؤدي الى تقارب مع إيران، مركّزين على عدم احترام إيران لحقوق الإنسان وقمع الحريات العامة وإعدام أشخاص بسبب آرائهم المعارضة للحكم.
ـ خامساً، العقبات تأتي أيضاً من الجانب الإيراني الذي يشترط على الولايات المتحدة إلغاء العقوبات الإضافية التي فرضها ترامب، قبل الطلب من إيران تطبيق التزاماتها.
ـ سادساً، لقد اتخذ مجلس الشورى الإيراني الشهر الماضي قراراً يقضي بأن تتخلّى الحكومة الإيرانية عن الإلتزامات المفروضة عليها بموجب الإتفاقية، كما أنّ الحكومة الإيرانية هدّدت بعدم السماح للمراقبين الدوليين بدخول المنشآت النووية الإيرانية ابتداء من الشهرالمقبل.
في ظلّ هذه الظروف، وفي ضوء الشروط والشروط المضادة بين كل من الولايات المتحدة وإيران، تبدو إعادة إحياء هذه الإتفاقية بالأمر المعقّد الذي يصعب حلّه في المستقبل المنظور، ولكن هنالك حاجة لكل من البلدين في العودة الى الإتفاقية. فإيران في وضع اقتصادي سيئ، وتسعى الى رفع العقوبات الإقتصادية عنها لتتمكن من تصدير البترول الذي هو أحد الأركان الأساسية لاقتصادها، كما انّها في حاجة ايضاً الى استعادة علاقاتها التجارية مع دول العالم لتأمين مستورداتها الإستهلاكية.
والولايات المتحدة من جهتها في حاجة الى استرجاع احترام المجتمع الدولي لها وفق ما وعد به بايدن، وإقناع الحلفاء والخصوم أنّ مرحلة رئاسة ترامب كانت مرحلة استثنائية انتهت، وهي تريد كسب ثقة الدول الأخرى بها، عبر إظهار التزامها بالإتفاقات التي تعقدها.
العقبات في طريق العودة الى الإتفاقية ليست بسيطة، ولكن تذليلها قد يكون ممكناً خصوصاً إذا كانت بعض الشروط المعلنة هي بمثابة مواقف سياسية يطلقها كل طرف ليترك مجالاً للتفاوض عليها في سبيل الوصول الى السقف الذي يناسبه. كما انّ هنالك امكانية لتقريب وجهات النظر بعض الشيء، عبر تدخّل الدول الأخرى الخمس الموقّعة على الإتفاقية. وقد تستطيع روسيا والصين إقناع إيران بالتخفيف من شروطها انطلاقاً من علاقاتهما الجيدة معها ورغبة منهما في إظهار حسن نية تجاه الإدارة الأميركية الجديدة. كما يمكن لكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا التدخّل مع الولايات المتحدة لتسهيل الأمور.
مسألة الضغوط الإسرائيلية والخليجية يمكن أيضاً معالجتها. إذ نذكر جيداً معارضة إسرائيل القوية للإتفاقية أثناء التفاوض عليها، وكيف حضر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الى واشنطن في شباط 2015 قبل أشهر قليلة من توقيعها، وألقى خطاباً في الكونغرس الأميركي حظي بترحيب قوي لدى معظم أعضاء الكونغرس من الحزبين، ولكن اوباما لم يستقبله في البيت الأبيض، ولم يلتق به في تلك الزيارة، واستمر في التفاوض وصولاً الى عقد الإتفاق، رغم معارضة إسرائيل واللوبي الإسرائيلي وأكثرية أعضاء الكونغرس، ما يعني أنّ بايدن يستطيع، إن كانت عنده القوة والحنكة المطلوبة، تجاوز عقبة المعارضين، في حال حصل على تنازلات معقولة من الجانب الإيراني.
من جهة ثانية، على الولايات المتحدة التنبّه الى أنّ انتخابات رئاسية ستحصل في ايران بعد 5 أشهر، ومن المحتمل وصول قيادة جديدة أكثر صلابة وعداء تجاهها من الرئيس حسن روحاني، الذي فاوضت إدارته على الإتفاقية ووقّعتها، وهذا من شأنه أن يشجع الولايات المتحدة على عدم التأخّر في تحركها، وربما تحصل مفاوضات جانبية بعيداً من الأضواء، عبر وسطاء، مثلما حصل قبيل المباشرة بالمفاوضات التي أدّت الى عقد الإتفاق عام 2015.
الأمر الممكن حصوله في المستقبل غير البعيد، هو عودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية وعودة إيران الى الإلتزام بها، في إطار يجعل كلاً من الفريقين يشعر أنّه حقق مكسباً من ذلك. وفي مطلق الحالات فإنّ أي تطورات قد تحصل في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة سيكون لها انعكاس واضح على الوضع في لبنان، علماً أنّ موضوع التفاوض على الصواريخ البالستية الإيرانية وامتدادات إيران في اليمن وسوريا ولبنان، لن يتمّ في المستقبل القريب، ما يعني أنّ الوضع في لبنان لن يشهد قريباً تغيّراً ملموساً سلباً او إيجاباً. ويبقى السؤال: هل سيقوم نتنياهو بمغامرة عسكرية في إيران لإحراج بايدن ومنعه من العودة الى الإتفاقية النووية، ولإفشاله منذ بداية عهده في أي محاولة لتحسين العلاقات مع الدولة الإسلامية؟