كتب حسن بيان في “اللواء”:
عاشت طرابلس ليل ٢٨/٢٩ كانون الثاني،ليلاً طويلاً،عوضت اضواء الحرائق التي اشعلت المحكمة الشرعية ومبنى البلدية، غياب التيار الكهربائي عن المدينة اسوة بسائر المناطق اللبنانية.
هذا الذي شهدته طرابلس، والذي لا يخلتف اثنان حول مرارة الواقع المعيشي الصعب الذي يرزح أبناؤها تحت اعبائه،لم تشهد له مثيلاً منذ انطلقت الانتفاضة الشعبية في ١٧تشرين الأول ٢٠١٩. فطرابلس التي استحقت لقب «عروس الثورة»، حافظت على سلمية حراكها وعلى انماطه الحضارية التي تجلت بارقى صورها بالحلقات النقاشية التي كانت تدار في خيم ساحة النور. واذا كانت قد حصلت بعض الاختلالات الأمنية، فإنها لم تخرج عن طابعها الفردي والتي عادة ما تحصل في كل تحرك شعبي احتجاجي.
اما أن يأخذ التحرك الذي حصل في الأيام الأخيرة طابعه العنفي ويوجه الى مؤسسات ترتبط بها مصالح المواطنين، اذ إن التظاهرات السابقة لم تكن ترفع شعارات ذات صلة بالاحكام الشرعية التي تصدرها المحاكم الشرعية، ولا تلك الشعارات التي تتناول الأداء البلدي، بل الشعارات كانت موجهة ضد السلطة التي يفترض فيها ان توفر الحد الأدنى من الضرورات الحياتية في نظام الاغلاق الذي سجل التزاماً مقبولاً بالقياس الى ما سبق وخاصة في طرابلس.
واذا كانت صرخات الجياع قوية، وهي تعبر عن صرخة ووجع كل من يعاني اوضاعاً معيشية مماثلة في مناطق لبنانية أخرى،لأن لا هوية طائفية للرغيف وحبة الدواء وحاجة كسوة الشتاء، إلا ان ما بدا واضحاً ان الذين نزلوا الى الشارع وإن كان انضوت في صفوفهم، بعض من اخذهم حال الجوع وانعدام فرص العمل، إلا ان القوى الحراكية بكل طيفها السياسي والاجتماعي لم تشارك بهذا التحرك ولا دعت اليه وهي التي لم تفارق سابقاً الساحات على مدى اشهر، الى أن جاءت الجائحة وفرضت الانكفاء القسري عن الشارع، بل الذي تبين ان ثمة مجموعات نزلت الى الشارع تحت شعارات الحراك المطلبية، وبدل من تقدم حراكها تحت العنوان السياسي الذي ظلل الانتفاضة منذ انطلاقتها،ذهب باتجاه الشغب والتخريب اولاً باتجاه السراي الحكومي، والذي وإن كان غير مستساغ ومقبول، إلا انه قد يكون مفهوماً التصويب عليه باعتباره يمثل رمزية سلطوية .اما ان ينحرف التحرك باتجاه المحكمة الشرعية ومقر البلدية وهما بقيا في أمان طلية فترة الحراك ومعهما ايضاً السراي الحكومي، ففي الامر قطبة مخفية. وهذه القطبة المخيفة لا تبدو انها ستبقى مخفية من خلال المشهدية الميدانية للحوادث التي دارت في ساحات طرابلس وضد بعض مؤسساتها العامة.
فعندما تُظهر الصور أن بعض الافراد يطلقون الرصاص الحي على المتجمهرين، ويلوذ بعضهم بالحواجز الأمنية، وعندما لا تتحرك وحدات الجيش بسرعة لوضع حدٍ للشغب، ومهمة حفظ الامن مناطة به، وعندما تترك الأمور على غاربها، ولا تتخذ الإجراءات الاحتياطية لحماية المؤسسات العامة، وعندما يقول وزير داخلية سابق بأن الدولة تبث عملاء لها في صفوف المتظاهرين، للقيام بأعمال شغب وتخريب ورمي القوى الأمنية بما تحوز عليه من مواد مؤذية، عندما يحصل كل هذا، فان الامر يخرج عن سياقاته الطبيعية. وكل ما في الامر، ان الذي حصل، ومن خلال قراءاته الأولية انما يصوب الى استغلال وجع الناس وألمهم وجوعهم وهذا كافٍ لان يفجر واقعاً شعبياً مضغوطا.
ويبدو انه يرمي لتوجيه رسائل بعدة اتجاهات، أولها، تلك الموجهة الى الانتفاضة الشعبية التي تتراكم معطياتها مبشرة بانطلاقة جديدة قد تكون اشد من الأولى نظراً لتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والانسداد السياسي امام مخرجات الحلول. وبذلك يكون الذي حصل في طرابلس، هو بروفة امنية لاختراق الحراك لاجهاض الانتفاضة من خلال الشارع، وثانيها، تشويه الصورة الرمزية لطربلس، إن لجهة دورها المحوري في إدارة الحراك الشعبي باتجاه التغيير الوطني الديموقراطي، وإن لجهة موقع طرابلس في الخارطة الوطنية، بحيث كانت تلعب دوراً اساسياً في صياغة الخيارات الوطنية. وان اضعاف موقعها في لحظة البدء برسم الخرائط السياسية الجديدة في لبنان وعلى مستوى الإقليم، سيعزز مواقع الذين يعملون لتطويع ساحة لبنان لمصلحة المشاريع الإقليمية. واما ثالثها، فهو إفهام هذا الموقع الوطني، بأنه سيكون عرضة للحرق اذا استمر في موقف الاعتراض واقفال الطرق على عمليات التهريب للمواد المدعومة.
ان طرابلس تضم الشريحة السكانية الافقر في لبنان، وهي لم تولِ الاهتمام الكافي من مشاريع الانماء، وبقيت محرومة من المشاريع الخدماتية، وبقي البعض ينظر اليها بأنها بريد إيصال رسائل، واذا ما استمر التعامل معها بنفس العقلية والنمطية، فإن هذا الوضع سيزيد الاحتقان الاجتماعي احتقاناً، وعندما تنفجر احياؤها الفقيرة، فهي لن تطيح بأغنيائها وحسب، بل ستطيح بكل المنظومة السلطوية التي لم تتقن من اداراتها للمرفق العام سوى سياسة النهب للمال العام وتعميم ثقافة الفساد. وعليه فإن استدراك الانفجار الاجتماعي الكبير، هو ادراك من يتجاهل الحقوق المشروعة للناس الذين يكويهم نار الغلاء، فإن اهم الثورات في التاريخ هي ثورات الجياع.